لم يعد التحوّل نحو الطاقة المتجدّدة في العالم العربي مجرّد خيارٍ بيئي أو طموح تنموي، وفق ما ذكرنا في الجزء الأول من هذا المقال، بل أصبح مسارًا استراتيجيًا تفرضه مجموعة من العوامل المتداخلة، من أبرزها الضغوط الاقتصادية، والتحدّيات المناخية، والتحوّلات الجيوسياسية، والتطوّرات التكنولوجية المتسارعة. فمن جهة، تتعرّض اقتصادات الدول العربية، وخصوصًا الريعيّة منها، إلى تقلّبات أسعار النفط والغاز، ما يهدّد استقرار موازناتها وقدرتها على التخطيط طويل الأمد. ومن جهة أخرى، تتزايد الضّغوط الدولية على الدول المنتجة للطاقة التقليديّة من أجل خفض الانبعاثات والالتزام باتفاقات المناخ، وهو ما يتطلب تغييرًا جذريًا في نماذج الإنتاج والاستهلاك.
النّجاح يتطلّب إقامة منظومات إنتاج وتوزيع وتصدير مترابطة تُعزّز التكامل في الصناعات التحويلية المرتبطة بالطاقة النظيفة
على الصعيد الجيوسياسي، يُعيد التحوّل العالمي نحو الطاقة النظيفة تشكيل علاقات القوّة والنفوذ بين الدول، ويمنح الأفضلية لمن يسبق في امتلاك تكنولوجيات المستقبل وبنيته التحتيّة. وهنا تتقدّم الدول العربية ببطءٍ متفاوتٍ، مع وجود نماذج واعدة، كالمملكة المغربية والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، لكنّها لا تزال بحاجة إلى إطارٍ إقليميّ يُعيد تنظيم الجهود ويكفل عدالة التوزيع والاستفادة.
ومع تفاوت القدرات الاقتصادية والسياسية بين الدّول العربية، يتزايد الوعي الجَماعي بأنّ النّجاح في هذا التحوّل لا يمكن أن يتحقّق من خلال الجهود الفردية فقط، بل يتطلّب تعاونًا إقليميًا واسع النّطاق يشمل ليس فقط تبادل المعرفة والخبرات، بل أيضًا إقامة منظومات إنتاج وتوزيع وتصدير مترابطة، تساهم في استثمار الموارد الطبيعية في شكلٍ مشتركٍ، وتعزّز التكامل في الصناعات التحويلية المرتبطة بالطاقة النظيفة. بيْد أنّ هذا التعاون يجب أن يقوم على أُسُسٍ من التكامل لا التنافس، وعلى رؤيةٍ بعيدة الأجَل تُدرك أنّ العالم يتّجه نحو عصرٍ جديدٍ تُقَاس فيه القوّة بمقدار ما تُنتجه البلدان من طاقة نظيفة، وما تملكه من كفاءات تكنولوجية وقدرة تصنيعية في هذا المجال.
الاستثمار في البحث والتطوير محدود ما يجعل الدول العربية تفقد فرصة بناء قاعدة معرفيّة محلية
لا تزال التحدّيات التي تواجه هذا التحوّل ضخمة، وهي ليست فقط مالية أو تكنولوجية، بل أيضًا سياسية وتنظيمية. فالدول العربية تختلف اختلافًا واسعًا في مستويات تطوّرها، وفي قدراتها المؤسّسية، وفي مدى استعدادها لإجراء إصلاحات هيكلية تُعيد توجيه اقتصاداتها نحو الطاقة النظيفة. الكثير منها لا يزال يدعم الوقود الأحفوري في شكل مباشر أو غير مباشر، سواء من خلال تسعير الطاقة أو الإعانة الحكومية، ما يُضعِف من تنافسية مشاريع الطاقة المتجدّدة ويؤخّر دخول القطاع الخاص في هذا الميدان. ولا تزال البنية التحتية، ولا سيما شبكات الكهرباء التقليدية، غير مهيّأة لاستيعاب مصادر الطاقة المتقطّعة مثل الشمس والرياح، وهي مصادر تحتاج إلى مرونة في التوزيع وتكنولوجيا تخزين متقدّمة لا تزال مكلفة أو غير متوفّرة في الكثير من البلدان.
ثمّة أيضًا تحدّيات متعلقة بالموارد البشرية. الكثير من البلدان العربية تفتقر إلى الكوادر الفنية المدرّبة في مجالاتٍ مثل تصميم الأنظمة الشمسية، وإدارة شبكات الطاقة الذّكية، وصيانة مرافق الرياح، وإنتاج الهيدروجين الأخضر. ويرجع ذلك إلى غياب برامج متخصّصة للتعليم المهني والتّكنولوجي، وضعف التنسيق بين وزارات الطّاقة والتعليم، وغياب الحوافز لجذْب الشباب إلى هذا القطاع الحيوي. ولا يزال الاستثمار في البحث والتطوير محدودًا، ما يجعل الدول العربية تعتمد على التّكنولوجيا المستورَدة، وتفقد فرصة بناء قاعدة معرفيّة محلية.
إلى جانب هذه التحدّيات، يُعَدُّ غياب إطار تمويلي عربي مشترك من أبرز العوائق التي تُبطئ وتيرة التحوّل. فالدول ذات الدخل المحدود أو التي تعاني من عدم استقرار سياسي تجد صعوبةً في جذب الاستثمارات أو تمويل مشاريع ضخمة للطاقة المتجدّدة. ولهذا يجب ألّا يقتصر التعاون العربي على التنسيق السياسي أو تبادل الوفود، بل لا بد من تأسيس صناديق تمويل إقليمية، تساهم فيها الدول الغنيّة، وتُدَار بشفافية، وتُخصَّص لتمويل مشاريع طاقة نظيفة في الدول الأقلّ قدرة. كذلك، ينبغي وضع آلياتٍ لضمان تقليل المخاطر، وتطوير تشريعات موحّدة، ومعايير مشتركة للإنتاج والنقل والتسعير، بما يعزّز من تكامل السوق العربية للطاقة النظيفة، ويفتح المجال أمام القطاع الخاص المحلي والعربي للمشاركة الفاعلة.
العالم العربي يمتلك احتياطيّات ضخمة ويستطيع أن يتحوّل إلى مركز إنتاج وتصدير للمواد الأساسية للتّكنولوجيا النظيفة
ولا يمكن الحديث عن هذا التحوّل من دون التوقّف عند البُعد الجيوسياسي. فمع تصاعد التوتّرات الدولية حول السيطرة على مصادر الطاقة، وسعي أوروبا لفكّ ارتباطها الطاقوي بالاتحاد الروسي، تبرز المنطقة العربية كمصدر موثوق ومستقرّ نسبيًا للطاقة النظيفة. وفي الوقت نفسِه، لا ينبغي إغفال الأسواق الآسيوية، ولا سيما جمهورية الهند ودولة اليابان وجمهورية كوريا (الجنوبية)، التي تُعَدُّ من أكبر المستهلكين المستقبليين للهيدروجين الأخضر. هذه البلدان تبحث عن مصادر بديلة وموثوقة بعيدًا عن النفوذ الصيني والروسي، ما يضع الدول الخليجية، من خلال موانئها المتطوّرة، في موقع استراتيجي يؤهّلها لتكون همزة الوصل بين الشرق الأوسط وآسيا في مجال الطاقة النظيفة.
ومع تنامي الطلب العالمي على المعادن الأساسية اللّازمة للطاقة النظيفة، مثل الليثيوم، والنيكل، والكوبالت، والنحاس، تتزايد أهمية المنطقة العربية التي تمتلك احتياطيّات ضخمة لم تُستثمَر بعد. فالمملكة العربية السعودية، وسلطنة عُمان، والجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، وجمهورية السودان، والمملكة المغربية، كلّها تمتلك إمكانياتٍ واعدةً جدًا في هذا المجال. وإذا استُغِلَّت هذه الثروات من ضمن شراكات عربية مشتركة، تتوزّع فيها الأدوار بين التنقيب، والتكرير، والتصنيع، يستطيع العالم العربي أن يتحوّل إلى مركز إنتاج وتصدير للمواد الأساسية للتّكنولوجيا النظيفة، لا إلى مجرّد سوق مستهلِكة.
لقراءة الجزء الأول
(خاص "عروبة 22")