والمرحلة الثانية كانت سمتها تدخّل السلطة وخصوصًا في مرحلة التنظيمات بعد إعلان "متصرّفية جبل لبنان"، إذ أوْلت الإدارة العثمانية اهتمامًا ملحوظًا بمدينة بيروت التي أُعلنت ولايةً عام 1888. تدخّلت الإدارة العثمانية في إنشاء المباني الحكومية والثكنات والحدائق وشقّ الطرقات بما في ذلك طريق بيروت - دمشق. وقد ازداد التدخل من جانب الإدارة العثمانية عبر هدم أحياء ومناطق من بيروت كما أسلفنا. وفي فترة الانتداب الفرنسي، وُضعت القوانين المتعلّقة بالتنظيم المُدني فأصبح امتداد العمران مضبوطًا بقوانين بلدية ومشاريع تقوم بها السلطات مثل بناء البرلمان (1933) والمتحف (1942) وبعض الفنادق مثل "سان جورج" الذي يعود إلى ثلاثينيّات القرن العشرين.
الديموقراطية العمرانية موازية للديموقراطية السياسية والتمثيلية
أما المرحلة الثالثة، فهي مرحلة الاستقلال، التي شهدت منذ الخمسينيّات ازدهارًا لأسبابٍ متعدّدةٍ، فاستمر إنشاء المباني ذات الطابع الخدماتي مثل "كازينو لبنان" و"المدينة الرياضية" إضافةً إلى "مطار خلدة" عام 1954. إلّا أنّ الازدهار والاستقرار قد شجّعا موجات النزوح من البلدات والقرى باتجاه بيروت، وكذلك إلى مدينة طرابلس، وقد أدّى ذلك إلى توسّعٍ في العمران، وقد ساهمت شركات الإسمنت التي تعود إلى الخمسينيّات في توفير مواد بناء بأسعارٍ تجاريةٍ مما أدخلنا في حقبة ديموقراطية، فلم يعد السكن في الحيّز الحديث من المدينة يقتصر على الفئات العليا من المجتمع، بل نشأت مناطق سكنية لعائلات الفئات المتوسّطة والدنيا.
والديموقراطية العمرانية موازية ومشابهة للديموقراطية السياسية والتمثيلية. ففي بداية القرن العشرين، اقتصر التحديث العمراني على الملّاكين والوجهاء من دون سائر الفئات. أمّا في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية ونيل الاستقلال، فقد صدر القانون الذي يُجيز للبالغين من الرجال الانتخاب وذلك عام 1947، وفي الأعوام التالية أصبح للنساء حقّ الانتخاب في تشريع عام 1953.
وهذا التطوّر في النظام الانتخابي الذي نقل حقّ الانتخاب من الخاصة إلى العامة، يشبه التطور الذي أصاب العمران الذي انتقل من الخاصة إلى العامة. ولهذا فإنّ شروط الديموقراطية عامة والديموقراطية العمرانية خاصة هي توسيع قاعدة المشاركين والمستفيدين مع تخفيف الشروط إلى درجة انعدامها كما حصل في لبنان. ولنقل إنّ الديموقراطية العمرانية هي جزء من الديموقراطية الاجتماعية، إذ أصبح كل مواطن يسعى من أجل الحصول على الخدمات التي أصبحت متوفرةً بسبب شبكات الطرق وشبكات المياه وشبكات الكهرباء. كل ذلك، سهّل الخروج من المدينة القديمة من دون تردّد، أمّا الحنين فقد جاء لاحقًا.
آثار الحرب في التهجير ثم في النزوح باتجاه المدن وأطرافها أدت إلى انتشار العمران الذي لا يلتزم بالمواصفات
الديموقراطية العمرانية تقتضي إذًا تخفيف الشروط، فلم يعد البناء يقتصر على المنازل الخاصة والمنفردة التي تُصرف ثروات لزخرفتها وجودة بنائها، فازدياد الانتقال من المدينة القديمة إلى المدينة الحديثة، وكذلك الانتقال والنزوح من الرّيف إلى المدينة يقتضي عمرانًا عمليًا ومُيسّرًا وليس طابعًا شخصيًا أو عائليًا، ومن هنا أخذ مقاولون على عاتقهم بناء العمارات المتعدّدة الطبقات التي حدّدها التنظيم المُدني بأربع أو خمس، قبل رفعها في السبعينيّات إلى عشر طبقات أو أكثر.
ومن هنا يمكننا أن نُلاحظ أنماطًا من العمران بعضها يرجع إلى القرن التاسع عشر، وبعضها الآخر إلى فترة الانتداب، ثم إلى الخمسينيّات والستينيّات حين كان البناء لا يزال يحافظ على الشروط الهندسية والمدنية والأناقة والمتانة والتناسق، وكل ذلك يشكّل تاريخًا وتراثًا عمرانيًا وثقافيّا.
مرّ لبنان بحقبة الحرب منذ خمسين سنة، وخلال هذه المدّة وحتى يومنا هذا، لم يستقرّ لبنان استقرارًا بيّنًا وناجزًا، وآثار الحرب في التهجير ثم في النزوح الكثيف باتجاه المدن وأطرافها أدت إلى انتشار العمران الذي لا يلتزم بالمواصفات، والأهم من ذلك عدم الالتزام بالقانون والتنظيم المُدني. ففي ظلّ الحروب والاضطرابات يصبح التقيّد بالقانون ترفًا لا يُلزم أحدًا، خصوصًا لدى المقاولين الذين يستغلّون الظروف لتحقيق الأرباح السريعة.
محو ذاكرتنا العمرانية عبر التواطؤ في هدم معالم هي جزءٌ من نهضتنا وثقافتنا
وعلى هذا النّحو، تضافرت عوامل متعدّدة أدّت إلى المشاهد العمرانية البائسة، التي تُطالعنا في كل أنحاء لبنان مدنًا وأريافًا ساحلاً وجبلا. وهي نتيجة هذا التضافر بين التهجير والنزوح وانعدام تطبيق القوانين وتجاوزها أو الاحتيال عليها، الأمر الذي استغلّه المقاولون الذين يحظون بحماية قوى الأمر الواقع.
إنّ من بين أسوأ ما نواجهه اليوم هو محو ذاكرتنا العمرانية عبر التواطؤ في هدم معالم هي جزءٌ من نهضتنا وثقافتنا، والتي تدلّ على مراحل من تاريخنا، والتي بدلًا من أن تُحاط بالعناية، تُزال لتحلّ مكانها مصالح تجارية صمّاء.
لقراءة الجزء الأول
(خاص "عروبة 22")