المؤكد أنّ كلّ طرف لم يستطع تحقيق أهدافه بشكلٍ كاملٍ من وراء هذه الحرب، فإسرائيل، وخلفها أميركا، تصوّرت في البداية، وبخاصة بعد نجاحها الاستخباراتي في اختراق إيران واغتيال قادة عسكريين وعلماء نوويين، أنّها يمكن أن تجبر طهران على الاستسلام وتكرار مشهد الحرب العالمية الثانية حين استسلمت ألمانيا بعد تدمير جيشها واحتلال مدنها، وهو ما لم يحدث، بل ظلّت إيران حتّى بعد إعلان وقف إطلاق النّار قادرةً على الردّ واستهداف الدولة العبرية.
والحقيقة أنّ الهدف الإسرائيلي كان الوصول بإيران لمعادلةٍ تشبه ما جرى لـ"حزب الله"، أي القضاء على الجانب الأكبر من قدراتها العسكرية وتدمير العدد الأكبر من المنشآت المدنيّة وبخاصة النووية، ولكنّها اكتشفت أنّها دمّرت جانبًا محدودًا من قدراتها العسكرية وعطّلت جانبًا كبيرًا من قدراتها النووية، ولكنّها لم تحقق نصرًا حاسمًا عليها.
حروب "رمادية" يدخل فيها الإعلام و"اللّجان الإلكترونية" للترويج لأخبار معظمها مزيّفة وتستثمر في انتصار غير حقيقيّ
أمّا إيران فإنّ انتصارها تمثّل في صمودها وقدرتها على الرّدع، فهي منذ البداية لم تكن تنوي إضعاف القدرات العسكرية الإسرائيلية أو استهداف مفاعلها النووي، إنّما تركّزت أهدافها في الردّ على الغارات الإسرائيلية بهجماتٍ صاروخيةٍ وتحويل أدائها الدفاعي إلى شكلٍ هجوميّ محسوب.
والحقيقة أنّ إسرائيل نجحت في إضعاف البرنامج النووي الإيراني واستهداف علمائها النوويين (قتلت 17 عالمًا إيرانيًا)، ولكنها لم تُسقط النظام ولم تَقضِ على قدراته العسكرية والاقتصادية. أمّا النظام الإيراني فقد كان هدفه "النجاة" من العدوان الإسرائيلي وردعه بالردّ عليه، وهو ما حدث، فقد بقي النظام وبقي جانب كبير من قدراته العسكرية ولم يُقضَ على مشروعه النووي، إنّما تمّ تعطيله وإضعافه.
والواقع أنّ مسألة معركةٍ واحدةٍ و"نصرَيْن" سبق أن شهدناها من قبل هذا العام، فقد أعلنت باكستان والهند الشهر الماضي أنّهما انتصرا في المواجهات التي جرت بينهما، وهو أمرٌ لم يَعْتَدْهُ العالم طوال حروبه الماضية، التي كانت فيها نتائج الحروب حاسمةً بهزيمة طرف وانتصار آخر. ولأنّ هناك حروبًا جديدةً "رماديةً" وغامضةً، ولا يستطيع كلّ طرف حسمها بشكلٍ كاملٍ لصالحه، فيدخل فيها الإعلام والصورة ووسائل التواصل الاجتماعي وحتّى "اللّجان الإلكترونية" للترويج لأخبارٍ معظمها مزيّفة، تستغلّ أنها تتعامل مع حربٍ غير محسومة النتائج وتستثمر في انتصارٍ غير حقيقيّ أو غير كاملٍ لكل طرف.
تحييد الأخطار الخارجية سيتطلب من نتنياهو استحقاقات في الداخل وخطاب النصر سيتطلّب من إيران استحقاقات داخلية
وأصبح السؤال ماذا يعني تمسّك القادة الإيرانيين والإسرائيليين بخطاب النّصر؟ وما هي التداعيات التي ستترتّب على هذه الحرب؟
الحقيقة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي يحتاج دائمًا إلى عدوٍّ أو خطرٍ خارجيّ لكي يبرّر سياساته العدوانية فهناك خطر "حماس" والفصائل الفلسطينية، وهناك خطر إيران وأذرعها، وبالتالي فإنّ تحييد هذه الأخطار سيتطلّب منه استحقاقات في الداخل، وخصوصًا ما يتعلّق باستعادة الأسرى الإسرائيليين لدى "حماس"، وهو سيعني عمليًا وقفًا مؤقتًا أو نهائيًا لحرب غزّة وإيجاد مخرجٍ يضمن له عودة الرهائن وتقبله "حماس".
أمّا إيران، فإنّ خطاب النصر الذي ترفعه سيتطلّب منها استحقاقات داخلية، وطالما "انتصرت على إسرائيل"، فهل ستحتاج إلى إنفاق مليارات الدولارات مرةً أخرى لاستعاده مشروعها النووي؟ وهل ستعود لسياسة الأذرع بعد أن ثبت عدم جدواها؟.
الحقيقة أنّ إسرائيل لم تَحْتَجْ لهيكلٍ تنظيميّ "طويلٍ عريضٍ" وميليشيا وفصائل مُسلّحة لكي تخترق إيران، إنّما فرقة "كوماندوس" فيها خبراء ومُدرّبة تدريبًا عاليًا تابعةً لـ"الموساد"، استهدفت في ساعات 20 قائدًا عسكريًا إيرانيًا ونحو 10 علماء نوويين.
دلالات خطاب النصر تفرض نظريًا المراجعة ولكن عمليًا قد تستمر السياسات القديمة نفسها حتّى تعود كرة المواجهة
والحقيقة أنّ "الأذرع" التي حاربت بالوكالة عن إيران وتَبَاهى بها قادة طهران، سقطت تباعًا بإضعاف "حزب الله" والحوثيين، والسيطرة على تحرّكات الفصائل المسلّحة في العراق، إلى جانب سقوط نظام بشار الأسد، وغابت جميعها عن هذه المواجهة. وأصبحت طهران أمام فرصةٍ تاريخيةٍ أن تعودَ كدولةٍ طبيعيةٍ تعتمد أساسًا على قدرتها الداخلية وتحالفاتها الخارجية، وليس على أذرعها ووكلائها. كما أنّها من الوارد أن تُراجِعَ الطريقة التي واجهت بها المنظومة الدولية بإعادة النّظر في أدواتها القديمة وعلى رأسها اليورانيوم عالي التخصيب الذي يفتح الطريق أمام امتلاك القنبلة النووية.
إنّ دلالات خطاب النصر واستحقاقاته بالنسبة للجانبَيْن تفرض نظريًا المراجعة، ولكن عمليًا قد تُبقي الحال على ما هو عليه، وتستمر السياسات القديمة نفسها من دون تغيّرٍ كبيرٍ حتّى تعود كرة المواجهة بين الجانبَيْن مرةً أخرى.
(خاص "عروبة 22")