سيادة المعرفة وثقافة القانون!

مع كل موسم امتحانات جامعية في العراق، تتكرر المشاهد ذاتها: مسؤولون جامعيون، وسياسيون أحياناً، يدخلون القاعات أثناء أداء الطلبة لاختباراتهم، يلتقطون الصور، يتبادلون الابتسامات والمجاملات مع المراقبين والطلبة، يأخذون أوراق الأسئلة ويطلعون على مضامينها، وتُنشر "جولاتهم التفقدّية" على صفحات التواصل الاجتماعي.

يبدو هذا السلوك عاديًا في السياق الثقافي العراقي الراهن، لكنه يخفي وراءه الكثير من الأسئلة المتعلقة بفهمنا للمؤسساتية، وحدود السلطة الجامعية، وسلامة البيئة الامتحانية.

يسعى هذا المقال لتفكيك هذه "النزعة الاستعراضية" في فضاء التعليم العالي، والتي تكرّسها ثقافتنا بلا مساءلة، وتمرّ على حساب القيم المهنية والرصانة الجامعية والكرامة المؤسسية.

فما نحتاجه هو ثقافة قانونية وإدارية جديدة تصون المؤسسات وترفض الاستعراض وتلتزم بالتعليمات والصلاحيات إلى جانب الالتزام بالتراتبيات الإدارية. هل هذه دعوة مثالية؟ نعم، ولكنها، باعتقادي، مثالية واقعية، مطلوبة، بل يجب السعي إليها لتكريس الانضباط المؤسسي والكفاءة الإدارية، لا التراجع عنها بحجة أنها ليست من "عاداتنا وتقاليدنا" البيروقراطية!

غالباً ما يُختزل مفهوم السيادة في وعينا العام إلى سيادة الدولة على أراضيها أو في علاقاتها الخارجية، لكن السيادة الحقيقية تبدأ من الداخل، من سيادة القانون ذاته، حين يُفهم على أنه الإطار الأعلى الذي ينظّم العلاقات داخل المؤسسات، ويحدّد المسؤوليات الإدارية والاختصاصات الوظيفية بعيداً عن الأمزجة والمجاملات والهياكل الشكلية للسلطة.

فالسلطة التشاركية لا تسأل: "مَن هو الأعلى؟" بل تسأل: "مَن المسؤول عن هذا الفعل؟". وبهذا وحده تُصان كرامة المؤسسة، وتتحقق الشفافية، ويُترجم احترام القانون من خطاب إنشائي إلى ممارسة فعلية.

إن السيادة الجامعية لا تقتصر على استقلال الجامعة عن التدخلات السياسية والحزبية والعشائرية فحسب، بل تتجلّى بشكل أعمق وأدق في وعيها هي كمؤسسة باستقلاليتها وممارستها للسيادة على فضائها الداخلي، من خلال احترام كل فردٍ فيها لقوانينها وقواعد السلوك فيها، والحفاظ على كرامتها الإدارية والأكاديمية، وضمان مهنية الأداء داخلها في كل تفصيلة من تفاصيل عملها، بدءاً من تنظيم المحاضرات مروراً بإجراء الامتحانات وصولاً إلى منح الشهادة الدراسية.

هذا الشكل من السيادة ليس ترفاً إدارياً، بل هو مظهر من مظاهر السيادة المعرفية، أي ذلك التصوّر الذي يتعامل مع المعرفة لا باعتبارها مجرد محتوى أكاديمي، بل أساساً تقوم عليه الدولة والمجتمع، وقيمة مركزية توجّه السياسات وصناعة القرار وأساليب الإدارة والوعي الجمعي.

إن الهدف من هذا الطرح هو إثارة نقاش مسؤول حول فهم الأدوار والصلاحيات، واحترام مهنية المؤسسة الجامعية بوصفها جزءاً من مشروع أوسع لتكريس سيادة القانون في مؤسسات الدولة.

يتم التصفح الآن