هل يقضي الذكاء الاصطناعي على الفقر أم يضاعف الفقراء؟

مع انطلاقة الزمن الرقمي في مطلع العقد الثاني من الألفية الثالثة؛ تملّك الأمل الكثيرون في أن تمهّد التقنيات الرقمية الطريق من أجل التيسير الحياتي لمواطني الكوكب والارتقاء بمستوياتهم المعيشية. فالتقدّم المطّرد (الطفري) في عالم الرقميات وذروته الذكاء الاصطناعي، بدا وكأنّه يفتح الباب أمام عالمٍ أقلّ فقرًا وأكثر عدالة.

هل يقضي الذكاء الاصطناعي على الفقر أم يضاعف الفقراء؟

في هذا الإطار، نواصل طرحنا لما أسمّيه "تساؤلات الزمن الرقمي" التي نُعنى فيها بطرح أسئلةٍ تتعلّق بمستقبل الإنسان - المواطن في عصر الذكاء الاصطناعي، حيث تسود أنظمته وتطبيقاتها اللّامحدودة شتّى مجالات الحياة الإنسانية من خلال آلاتٍ تمتلك قدراتٍ تمكّنها من ممارسة عمليات الذهن/التفكير المتشابكة، ومنهجيات التحليل المختلفة، ومهارات التخطيط المتعارف عليه، وبرامج التنفيذ الموسعة... ما يُمكّنها، في المجمل، من مُحاكاة الإنسان فيما يُبدع ويصنّع ويفعل ويعمل وينشط... ومن ثم حلولُ هذه الأنظمة الذكية في شتّى الدوائر: الصناعية، والمعرفية، والعلمية، والإبداعية، والثقافية، والإدارية، والخدمية، والعسكرية، والفنية، والترفيهية، والرياضية، والتنموية، والبيئية... إلخ.

لذا طرحنا قبلًا أسئلةً متنوعةً حول "مستقبل العمل وأثر البطالة، والعقل الديني، والشعور الإنساني". (راجع مقالاتنا في "عروبة 22": الذكاء الاصطناعي يستنفر العقل الماركسي!، الذكاء الاصطناعي والعقل الديني!، الذكاء الاصطناعي والشعور الإنساني!). وها نحن، نطرح سؤالًا آخر، نُضيفه إلى قائمة تساؤلاتنا، يتعلّق بمستقبل الفقر والفقراء، وهل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يقضيَ على الفقر أم أنّه سيُفاقِم من أعداد الفقراء؟ بلغةٍ أخرى سيُعيد إنتاج الفقر، وربّما تعميقه بصيغٍ مُتجدّدة؟ ومن ثم تَفاقُم أعداد الفقراء؟.

مركزَة الثروة في أيدي الشركات الضخمة تحول دون تأمين الخدمات للفقراء بل لمَن لديه القدرة على دفع قيمتها

بدايةً، تشير الكثير من الدراسات التي عنيَت بتتبّع أثر الذكاء الاصطناعي على الإنسانية، إلى أنّه منذ بدء الحديث عن الثورة الصناعية الرابعة، تمّ الترويج إلى أنّ نظام الذكاء الاصطناعي يمتلك إمكاناتٍ فذّة: تقنية ومعرفية؛ سيكون من شأنها إحداث تحوّلات جذرية في البنى المجتمعية المختلفة: الاقتصادية، والسياسية، والثقافية، وكذلك في شتّى المجالات العلمية والتنموية والخدمية والمالية، لجميع المواطنين من دون تمييز: الفقراء والأثرياء على السواء.

فعلى سبيل المثال، في المجال الإنتاجي، يرصد لنا "البنك الدولي" (2022) كيف أنّ التقنيات المُعتمدة على تحليل البيانات الضخمة والاستشعار عن بُعد يمكنها مساعدة المزارعين الصغار في تطوير المزروعات بسلالاتٍ تزيد من إنتاجيتهم وتتكيّف مع تغيّر المناخ. وفي المجال الخدمي، يوجّه نظرنا تقرير "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية" (2024) إلى تقنيات التعليم الذكي وقدرتها على أن تحلّ مشكلة نقص المعلمين، وتوفّر البرامج التعليمية المتعدّدة الذاتية للمهمّشين. كما أكد "برنامج الأمم المتحدة للتنمية" (2024) على أن تطبيقات الذكاء الاصطناعي قادرة على تعزيز قدرة الفقراء على الحصول على خدماتٍ طبيةٍ كانوا ولا يزالون محرومين منها مثل التشخيص المبكّر للأمراض ومتابعتها... إلخ. بَيْدَ أنّه، وفي المقابل، هناك من يحذّر ممّا يلي:

أولًا: أن تَحُولَ مركزَة الثروة في أيدي الشركات الضخمة (المتعدّدة/المتعدّية الجنسية، العابرة للكوكب القابضة على براءات الاختراع والخوادم والبيانات التي تحصد غالبية العائد المالي من نشاط الذكاء الاصطناعي، حسب الاقتصادي اليوناني "يانيس فاروفاكيس" في كتابه "الإقطاع التكنولوجي" (Technofeudalism) الصادر عام 2023)، دون تأمين الخدمات للفقراء، بل لمَن لديه القدرة - فقط - على دفع قيمتها.

الذكاء الاصطناعي سينضمّ إلى جملة العوامل المساهمة في اتساع الفجوة بين مَن يملك ومَن لا يملك

ثانيًا: احتمالية تحيّز أنظمة الذكاء الاصطناعي، وفق المعطيات التي تُقدَّم لها من قبل الأثرياء، ما يعمّق اللّامساواة ويمنع تكافؤ الفرص. وفي الأخير، يُفاقِم الفقر ويجعله مزمنًا.

ثالثًا: البوادر السلبية النّاجمة عن تطبيق أنظمة الذكاء الاصطناعي في الكثير من الدوائر مثل الاستغناء عن العمالة، بخاصة الوظائف التقليدية في مجالات التصنيع والنقل والخدمات، ما سبّب بطالةً متنامية.

وبالطبع، ما يزيد من احتمالات أن تصبح تلك التحذيرات واقعًا راسخًا يصعب مواجهته، هو أنّ نصف مواطني العالم لا يزالون يعانون من ضعف شبكة الإنترنت أو عدم توفّر الخدمة في الأصل. ما يعني أنّ الذكاء الاصطناعي سينضمّ إلى جملة العوامل العديدة المساهمة في احتكار القلّة للتقنيات الرقمية ومنظوماتها، ومن ثم الاستمرار، مجدّدًا، في اتساع الفجوة بين مَن يملك ومَن لا يملك.

بغير جعله ملكًا عامًّا للإنسانية لا احتكارًا لشركات بعينها سيكون الذكاء الاصطناعي نظامًا يجدّد استدامة الفقر ويؤبّد اللّامساواة

إذن، نحن بصدد وجهَيْن لعلاقة الذكاء الاصطناعي بالفقر والفقراء؛ وجه أول يبشّر بإمكانية الخلاص من الفقر بدرجاته، ووجه ثانٍ يُنذر بتفاقم الفقر عالميًا وبالتالي مضاعفة أعداد الفقراء على الكوكب. أخذًا في الاعتبار أنّ إمكانية الخلاص التي يتمّ التبشير بها مرهونة - عمليًا - بتحرير الأنظمة الرقمية، المتجدّدة التطوّر، وفي مقدمها نظام الذكاء الاصطناعي من سطوة الاحتكار ومنطق السوق والربح.

وبعد، لعلّ سؤالنا الرئيسي، وما سيتفرّع عنه من أسئلة، حول مستقبل العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والفقر - الفقراء، يتطلّب منّا التفكر والتدبّر في كيفية جعل الذكاء الاصطناعي ملكًا عامًّا للإنسانية لا احتكارًا لشركاتٍ بعينها، وحقًا لجميع مواطني الكوكب: الفقراء والأثرياء على السّواء. إذ بغير ذلك، سيكون الذكاء الاصطناعي نظامًا رقميًا يجدّد استدامة الفقر بدلًا من القضاء عليه، ويؤبّد اللّامساواة وكأنّها قدر لا فكاك منه. لذا، فإنّ المهمة الملحّة هي كيف يمكن فرض أطرٍ مرجعية حاكمة مركّبة ذات أبعاد تشريعية وقانونية، وأخلاقية واجتماعية، واقتصادية وسياسية، تضمن - بصرامةٍ وقناعةٍ - تكافؤ الفرص أمام الجميع للاستفادة من ثمار التجدّد التكنولوجي المطّرد في الزمن الرقمي.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن