مدونات

سوريا التي كانت.. سوريا التي أصبحت!

ميادة تيشوري - سوريا

المشاركة
سوريا التي كانت.. سوريا التي أصبحت!

في حياة كل إنسان لحظات صغيرة، تختبئ في زوايا الذاكرة كما تختبئ الطفولة في عيون الأطفال. لحظات تمرّ كأنّها لا شيء، لكنها حين تعود، تهزّ فينا كلّ شيء.

كانت طفولتي في سوريا هي هذا "اللاشيء" العظيم. لم تكن مجرد سنوات تمضي، بل كانت عالمًا كاملاً من الأمان والدفء، عالماً صنعته التفاصيل: رائحة الخبز الطازج، ضحكة أمّي، أصوات الجيران في الحارات، وصوت الأذان حين يتسلل من المآذن في المساء... كأن الحياة كلها كانت تطمئننا أن لا شيء سيحدث، وأن الغد يشبه اليوم، ويشبه الأمس.

أتذكر جيدًا سطح الجيران. لم يكن سطحًا إسمنتيًا فحسب، بل كان سماءً أخرى. نرتقي إليه صغارًا، فنحسّ أننا نلمس الغيم بأطراف أصابعنا. كانت أمّي تأخذنا معها، ونحن نركض خلفها بفرح طفولي لا نعرف له اسمًا، فقط نعرف أنه حرية. من هناك، من فوق، كان بيت جدّي يلوّح لنا بصمته، كأنّه قلبٌ من حجرٍ ينبض من بعيد. نضحك، نلعب، نراقب النجوم، وننادي على المارّة... ولم نكن نعرف أنّنا نختزن ذاكرة وطنٍ بأكمله، دون أن نعلم.

كانت تلك السهرات تمتدّ حتى يغلب النعاسُ أعيننا، حتى تصرخ أمّي من تحت: "انزلوا... تأخّر الوقت!"

فنردّ عليها بضحكنا: "بس شوي كمان!"

كأنّ الوقت لعبةٌ بيدنا، وكأننا نعرف أن تلك اللحظات لن تتكرر.

في تلك الأيام، لم نكن نخاف. لم يكن في القلوب مكان للقلق. الغد كان بسيطًا، واضحًا، لا يُخيفنا بشيء.

نستيقظ باكرًا، نمضي إلى المدرسة سيرًا على الأقدام، نعبر الطريق ذاته كل يوم، نمرّ ببيت جدّي، نلوّح له دون أن ننتظر ردًا، فقط لأن وجوده هناك كان يطمئننا.

المدرسة لم تكن مجرد مكان للتعلّم. كانت امتدادًا لحياتنا. الطريق إليها مرسومٌ بالوجوه المألوفة، بالتحيات العفوية، بروائح المخابز، وأشجار الليمون المتدلّية من فوق الأسوار. لم تكن هناك أخبار تُربكنا، ولا غربة تسكن عيون الكبار.

وفي الليل، كانت السطوح تتحوّل إلى مسارح. نمارس فيها طقوس الطفولة: نحكي القصص، نطارد الخيال، نعدّ النجوم، ونضحك من أعماق أرواحنا. لم نكن نعرف أن الزمن يخطّط لشيءٍ آخر، أن الحياة التي نعيشها كانت على وشك أن تُطوى.

سوريا، تلك التي كانت حضنًا، أصبحت الآن حكاية موجعة. البلد تغيّر، لا لأن الجدران تهدّمت، بل لأن الأرواح تهشّمت.

السطوح التي كانت لنا سماءً، صارت إما خاوية، أو محطّمة، أو مجرّد ذكرى في صور قديمة. الناس تغيّروا، البعض هاجر، البعض اختفى، والبعض بقي لكنه لم يعد كما كان. أصبحت الغربة ليست فقط في البلاد، بل في النظرات، في الشوارع، في الحنين الذي لا يجد من يفهمه.

بيت جدّي؟ لا أدري... ربما لم يعد موجودًا، ربما أصبح خرابًا، لكن في قلبي، لا يزال.

يتم التصفح الآن