في عملية أميركية أُطلق عليها اسم (عين الصقر)، شنت مقاتلات أميركية سلسلة ضربات جوية استهدفت تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا. وقالت القيادة المركزية الأميركية، إن الضربات الجوية شملت أكثر من سبعين هدفا، استهدفت بُنى تحتية ومواقع أسلحة، ومواقع نشيطة لتنظيم الدولة. كما أعلن الجيش الأردني مشاركته بسلاح الجو في ضرب مواقع تابعة للتنظيم في جنوب سوريا، مؤكدا بذلك استمرار التنسيق العسكري الإقليمي لملاحقة خلايا التنظيم. وترافق مع هذه العمليات تأكيد دمشق التزامها بمحاربة تنظيم الدولة، داعية الولايات المتحدة ودول التحالف الدولي إلى منع وجود أية ملاذات له داخل الأراضي السورية.
ومن الجدير بالذكر أن هذا التصعيد أتى بعد هجوم مسلح في محافظة تدمر السورية، أودى بحياة جنديين أميركيين ومترجم مدني من الجنسية نفسها. فإذا كانت الولايات المتحدة تعلم جيدا أن هناك سبعين هدفا تابعا للتنظيم في الأراضي السورية، ومواقع نشيطة تابعة له، فلماذا انتظرت كل هذا الوقت حتى تحرك التنظيم مجددا ونفذ العملية الأخيرة؟ وأين التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب؟ يقينا لقد أعطت الولايات المتحدة الأميركية في تركها التنظيم يُنشئ ملاذات آمنة في الأراضي السورية، من دون تحرك منها، حجة لأصحاب نظرية المؤامرة كي يحللوا الحدث وفق هذه النظرية. فبتنا نسمعهم يقولون، إن هذا التنظيم هو تحت مراقبة واشنطن وحلفائها في التحالف الدولي، وهي من تبث الروح فيه متى ما أرادت، ومتى ما شعرت بأن هناك فائدة من تحركه.. ويضربون مثلا على ذلك بالقول، إنه لم يكن هنالك ظهور لهذا التنظيم عندما اشتعلت المنطقة بعد غزوة السابع من أكتوبر، وما تلاها من الحرب على لبنان والحرب على إيران. لكننا بدانا نسمع بتحركاته عندما هدأت المنطقة، ويستمر تحليل أصحاب نظرية المؤامرة، فيقولون، إن الجغرافية السورية هي جغرافيا تُعاني من الفراغ. بمعنى ان الفراغ المكاني في سوريا موجود بشكل كبير جدا، من ناحية السيطرة المركزية للحكومة على أراضيها، وأن الولايات المتحدة تغض النظر عن هذا الفراغ، كي تتحرك فيه التنظيمات المُصنفة إرهابيا، ثم تُحركها بغرض الاستفادة منها في كل مرحلة كي تؤثر على الطبيعة الجيوستراتيجية في المنطقة. غير أن التحليل العلمي للحدث يُخالف هذه الرواية تماما.
أولاً، لا بد من التشديد على أن السياسة الأميركية ثابتة على الإدارات المتعاقبة، وهي أنه في حال تعرُض أشخاص أمريكيين، أو أصول عسكرية، أو مدنية أمريكية لفعل معادٍ من أية جهة كانت، فإن الولايات المتحدة الأمريكية تتحرك فوراً للرد على مصدر التهديد، وبشكل غير متناسب، لماذا؟ لأنها تريد التأكيد على الردع، وأن ثمة ثمنا باهظا سيطال كل من يجرؤ على القيام بذلك، وعليه فإنه يتوجب وضع عملية الرد الأمريكية الأخيرة في الأراضي السورية في هذا الإطار، وليس في إطار الجهد الأميركي الموجود والقائم في محاربة تنظيم الدولة، لأنه حتى انتماء من قام بقتل الجنود الأميركيين في تدمر السورية، إلى تنظيم الدولة ليس مؤكدا، بل حتى بيان الحكومة السورية حول الحادث لم يُشر إلى كون العنصر الذي قام بالفعل هو ينتمي إلى هذا التنظيم. إذن المسألة هنا فيها جانب استعراضي لا شك في ذلك، ولكن على تأكيد القوة، وعلى أن استهداف الأميركيين أشخاصا وأصولا مدنية وعسكرية له ثمن باهظ. أما ما قيل في الإعلان الأميركي إن المواقع التي تم استهدافها هي مواقع فاعلة لتنظيم الدولة، وعلى درجة كبيرة من العلاقة بالتنظيم، فيبدو أنها كذلك، أما لماذا لم يتم استهدافها قبل هذا الوقت رغم علم واشنطن بها، فهنا علينا أن نميز بين الفعل القصاصي، الثأري، والانتقامي، وبين الجهد الذي لايزال في إطار التحضير للتعاون والتشارك مع الحكومة السورية الجديدة، من أجل مواجهة تنظيم الدولة، الذي يقتضي خطوات وخططا مشتركة قادمة، لكن ماذا بشأن مشاركة الأردن في عملية (عين الصقر)؟ ولماذا هو الآخر انتظر حتى تتحرك الولايات المتحدة؟
طبعا من المعروف أن الأردن مشارك في قوات التحالف الدولي لمحاربة التنظيمات الإرهابية، بالتالي عندما وجد إعادة في نشاط هذه التنظيمات بدأ يتحرك تدريجيا ولم ينتظر. ففي الفترة الأخيرة كانت هنالك عمليات تهريب مخدرات وتسلل عبر الحدود مع سوريا، وقد عالجها الأردن كلا على حدة، لكن مشاركته بسلاح الجو الأخيرة رفقة الأمريكيين، كان يريد أن يعطي رسالة واضحة أن لديه القدرة على التصدي لكل التهديدات. كما أن عمّان لديها ثأر مع هذا التنظيم، الذي سبق أن قام بقتل أحد الطيارين الأسرى في حادث بشع قبل عدة سنوات.
أما سوريا التي جرى الفعل ورد الفعل الانتقامي على أراضيها، فهي الأخرى شريك في التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب، حيث أعلنت انضمامها لهذا التحالف في الشهر الماضي، لكن المُراقب يجد أن كل الذي جرى على أراضيها لم يكن بمشاركة حقيقية وفعالة من قواها العسكرية، والسبب في ذلك واضح جدا. فالدولة السورية الحالية تعاني من فارق القوة، وهي دولة ناشئة ليست لديها قوى صلبة في الوقت الحاضر، لكن التصدي الأمريكي لتنظيم الدولة يجري فقط عندما يُقتل أمريكيون، هذا يُرسل رسالة للحكومة السورية بأن التنظيم يمكن أن ينمو ويترعرع على الأراضي السورية. وهُنا يُقرأ على أنه خذلان أمريكي للسلطة الجديدة في دمشق.
لكن لا بد من القول إنه ليس سرا أن في الولايات المتحدة ثمة وجهتي نظر تتعلقان بالحكومة السورية الحالية. وجهة نظر متفائلة يؤيدها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، على الرغم من أن ترامب لا يُعتمد عليه فهو يُغير رأيه أسرع من سرعة الضوء، تقول إن دعم الحكم الجديد في دمشق بشكل سلطة مركزية قوية هو مصلحة أمريكية. بالتالي لا بد من التفاعل في تكوين قوى أمنية سورية قوية ومهنية، وبناء جيش قوي مهني ومُدرب تدريبا عاليا، وأن تكون مهام كل هذه القوى الصلبة منسجمة مع المصلحة الأمريكية وأن لا تتعداها. ولكن ثمة رأي أمريكي آخر يقول، إن الحكومة السورية الجديدة ماضية إلى الفشل. بالتالي حسب رأيهم يجب مجاراة التوجه الإسرائيلي الحالي تجاه السلطة في دمشق، أي الافتراض بأن سوريا ستمر بحالة فوضى، والتعامل مع مجموعات محلية هنا وهناك، تنسجم مع القراءة الإسرائيلية لطبيعة المنطقة ولطبيعة مستقبل أمن إسرائيل. لكن التوجه الغالب اليوم هو أنه طالما ترامب متفائل، ويوجد دعم على مستوى المنطقة لسوريا الجديدة، وفيها فرص استثمارية، فهو حريص على أن تكون سوريا الجديدة منسجمة مع الرغبات الأميركية.
(القدس العربي)

