انفصامٌ في الشخصية

في الوقت الذي تعرف فيه أوروبا حالة من الأفول في القضايا العالمية الكبرى في المجالات جميعا، العسكرية والاقتصادية والعلمية، من أوكرانيا إلى الساحل الإفريقي، ومن البرامج النووية إلى الفضائية، تقدِّم فرنسا نموذجا من الأداء السياسي المهلوس، الذي بقدر ما يختصر الحالة الأوروبية المتدهورة، يوحي بقرب بلوغ القارة العجوز حافة الهلاك.

يقال إنّ فرنسا كانت تقتات سياسيًا واقتصاديًا من الصراعات بين البلدان المتجاورة في الشام وشمال إفريقيا والخليج العربي، فهي تختار حينا الأقرب للفوز لتقف إلى جانبه، وأحيانا أخرى تميل إلى الذي ترى حاجتها فيه، لكنها في الفترة الأخيرة وبالضبط في عهد الرئيس الشاب إيمانويل ماكرون، دخلت حالة انفصام في الشخصية، إذ تقوم بفعلين متناقضين في آن واحد، تريد السلّة كاملة بما فيها من فاكهة، وترمي بما تبقى منها للطرف الذي تأخذها منه.

وإذا كان لا يعنينا تعاملُ فرنسا مع المغرب ومع بلدان إفريقية وعربية أخرى، فإنَّ تعاملها مع الجزائر فيه أعراض بارزة من الهلوسة، إذ تعض على علاقتها مع الجزائر بالنواجذ، ولكنها تأتي بأفعال فيها الكثير من الاستفزاز التاريخي، كما فعلت في احتفالية “الحركى” أو كما تبرزه برامج ومقالات وسائل الإعلام الفرنسية الرسمية مثل “لو فيغارو” و”فرانس 24″، التي تؤكِّد في مجملها حالة الانفصام في الشخصية التي هزّت ما تبقى من الإمبراطورية الفرنسية، التي بكلِّ ما فيها من عيوب وأخطاء وأحقاد استعمارية، كانت ميزتها الأولى والأهم هي أنها برأينا لا تتغيَّر، مهما كانت شدة الزلازل من حولها، من عهد نابليون بونابرت إلى عهد جاك شيراك.

يشبه حال فرنسا في العقد الأخير، حال طائر “الأوكسبيكر”، فهو يبدو جميلا محلِّقا في السماء، ولكنه يقتات من الجثث المتعفِّنة لمختلف حيوانات البراري، ومن الديدان والطفيليات، مما أفقده الألفة التي تتمتع بها كلُّ الطيور، فتم نبذه من الناس وتغييبُه عن حدائق الحيوانات، مثل ما حدث لفرنسا في محافل دولية كثيرة، ومؤخَّرا في الساحل الإفريقي، إذ حملت حقائبَها المليئة بالبارود والقنابل، وعادت أدراجها إلى أرضها، تماما مثل طائر “الأوكسبيكر” في هرمه، إذ يعود إلى أعشاشه القديمة ينتظر ساعة رحيله، مع الإشارة إلى أنّ طائر “الأوكسبيكر”، الذي يعيش في “السافانا” يصنَّف ضمن الطيور المهدَّدة بالانقراض، مثل الممارسات الفرنسية الاستعمارية القديمة التي أرادت احتفالية وتكريم “الحركى“، إعادتها للحياة، ومثل اللغة الفرنسية التي حاولت “لو فيغارو” بمقالاتها، الدفاع عن “حصونها” في الجزائر العاصمة.

الجميل أن الجزائريين سلطة وشعبا، لم تعد تثيرهم حالة الانفصام في الشخصية التي تبديها فرنسا في معاملاتها، فقد صاروا يميّزون بين الغث القادم منها، والسمين الموجود هنا، أو الموجود لدى أمم أخرى كثيرة، وواضح بأن قافلتهم سارت فعلا، وتركت الصفير لطائر “الأوكسبيكر”.

("الشروق") الجزائرية

يتم التصفح الآن