شهدت قاعة المجلس الأعلى للثقافة يومي 18-19 سبتمبر 2023 مُناقشات وحوارات مُهمة. وذلك في الندوة التي نظّمتها مؤسسة الفكر العربي ومقرها بيروت بالتعاون مع المجلس بُمناسبة إطلاق المؤسسة تقريرها الثاني عشر للتنمية الثقافية بعُنوان: الفكر العربي في عقدين 2000-2020 والتي شارك فيها باحثون ومثقفون من مِصر ولُبنان والمغرب وموريتانيا وليبيا والإمارات. تقلد بعضهم مِناصب عُليا في بلادهم فجمعوا بين الفِكر والممارسة. اتسمت الجلسات بكثافة الحضور من أساتذة جامعات، وعاملين بمراكز البحوث، وطلبة الدراسات العُليا، مما يعكسُ الاهتمام بالقضايا الفِكرية الجادة.
هدف التقرير إلى تقديم مسح لأهم تيارات الفِكر العربي خلال فترة مِفصلية في تاريخ العالم والوطن العربي. فقد شهدت هذه السنوات تحولات عميقة في العلاقات بين الدول الكُبرى أمريكا وروسيا والصين، وتحولات مُماثلة في بلادنا شهدت انتفاضات وتحركات شعبية وتغيُرات في الدساتير وشخوص القادة. وأدت إلى نشوب حروب وصراعات مُمتدة. ساهم في كتابة التقرير 22 باحثًا ومُفكرًا وكانت النتيجة مُجلدًا ضخما بلغ عدد صفحاته 597 من القطع الكبير. وشمل خمسة فصول حملت عناوين: الفكر السياسي، ونحو فكُر فلسفي جديد، والعلوم الاجتماعية والتربوية، والاقتصاد والتنمية، والثورة الرقمية. ولم يكُن من الممكن بالطبع مُناقشة كُل القضايا التي أثارها التقرير في ندوة واحدة، كما لا يُمكن عرض كُل المُناقشات التي شهدتها الندوة في مقال واحد. ولذلك أُركز في هذا المقال على قضيتين رئيسيتين تُؤثران على واقع العرب ومُستقبلهم.
القضية الأولى هي تِلك المُتعلقة بالهُوية وإدارة التنوع الثقافي والاجتماعي فى بلدٍ ما. ويشير مفهوم الهُوية إلى إدراك الإنسان لذاته وللجماعة البشرية التي يشعرُ بالانتماء إليها وبالتالي فإن سؤال الهُوية عادة ما يكون من أنا، ومن نحن؟ وتنبع أهمية هذه القضية من حقيقة أن شعوب أغلب الدول العربية تشملُ تنوعًا في التكوينات الإثنية، والمذهبية، والقبلية، والعشائرية، ووجود هُويات وولاءات لهذه التكوينات الاجتماعية. وفي كثير من الحالات، لم تكُن تِلك الهُويات والمجموعات الإثنية على وفاق مع الهُوية الجامعة للدولة.
وإذا كان التنوع الاجتماعي والثقافي في بلد ما هو حقيقة وواقعًا، فإنه لا يؤدي بالضرورة إلى تسييس العلاقات بين أبناء الوطن الواحد، أو تحويل الواقع الاجتماعي إلى صراعات وانقسامات سياسية. يحدث هذا التحول أو التغيير لأسباب عدة مِنها اتباع الحكومات لسياسات تمييزية في مجالات التنمية الاقتصادية وتخصيص الموارد والمُشاركة في المؤسسات التشريعية والتنفيذية، مما يؤدى إلى شعور بعض الجماعات بعدم العدالة وأن الحكومة تُراعي بعض الجماعات على حساب جماعات أُخرى. ومنها أيضًا التدخُلات الأجنبية واتباع الدُول الأوروبية في القرن التاسع عشر لسياسة احتضان أو تبني بعض المجموعات وشِمولها برعايتها مما أوجد توترات في العلاقات بين مُكونات المُجتمع الواحد. ترتب على ذلك ظهور أحزاب وتيارات سياسية على أساس إثني ومذهبي وقبلي وإلى تحويل الاختلافات الاثنية والطائفية إلى انقسامات وصراعات سياسية. وكُل الحروب الأهلية والصراعات الداخلية في الدول العربية اليوم لها جانب يتعلق بتسييس التنوع الثقافي والاجتماعي. مما يجعلُ قضايا الهُوية والعلاقة بين مُكونات المُجتمع وإدارة التنوع الثقافي مسألة مطروحة بإلحاح على جدول أعمال الفكر والسياسة العربية.
أما القضية الثانية فهي الدولة الوطنية باعتبارها الإطار السياسي والقانوني الذي يتولى إدارة المُجتمعات المُعاصرة. والدول الوطنية مفهوم حديث يرتكز على عناصر الإقليم والشعب وسُلطة الحكم والسيادة. ووفقًا لذلك، تختص الدولة الوطنية بإقليم واضح المعالم تفصله حدود عن الدول الأُخرى. وتمتدُ سُلطة مؤسسات الدولة على النِطاق الجُغرافى لهذا الإقليم. أما الشعب فهُم الأفراد الذين يُقيمون إقامة دائمة ومُستقرة على أرض الإقليم وهُم المواطنون الذين يحملون جنسية الدولة.
ومع الدولة الوطنية ظهر مفهوم المواطنة التي تربط بين جميع أفراد المُجتمع بغض النظر عن تنوعاتهم الدينية والمذهبية والإثنية. وهُنا تظهرُ العلاقة الوثيقة بين قضيتي الهُوية والدولة الوطنية. فالدولة ينبغي أن تتعامل مع جميع مواطنيها على أساس المواطنة والمُساواة في الحقوق والواجبات ليس فقط على المُستوى القانوني ولكن أيضًا على مُستوى الواقع والممارسة الاجتماعية والسياسية. وعندما يتحقق ذلك تتبلور هُوية وطنية جامعة تربط بين كُل المواطنين وذلك بحكم تطور الروابط والمصالح والثقافة المشتركة بين جميع أبناء الوطن وتحترم في الوقت نفسه التنوعات الاجتماعية القائمة ولا تحتاج إلى الصدام معها أو قمعها. في هذه الحالة تُصبح الدولة هي إطار الانتظام الاجتماعي والملاذ الذي يلجأ إليه كُل المواطنين لقضاء احتياجاتهم أما عندما تعجز الدولة عن تحقيق ذلك وتقع مؤسساتها أسيرة نزعات مذهبية وطائفية وقبلية فإن مواطنيها لا يعتبرونها ممثلة لهم ويلوذون بهوياتهم الفرعية.
الهوية الوطنية الجامعة إذن هي عنوان وحدة أبناء المُجتمع وتضامنه وقُدرته على مواجهة التحديات والأخطار. أما تراجعها أو ضعفها فهو دليل على فشل سياسات الدولة وعدم وفاء مؤسساتها بدورها ومسؤوليتها في الحفاظ على كيان الدولة. دارت مُناقشات ثرية حول هذه الموضوعات. ونقل كُل مُشارك خبرة البلد العربي الذي ينتمي إليه. أشار البعض إلى أن عددًا من البلاد العربية لا يُمكن اعتبارها دولة وطنية حديثة، وأنه عِندما يتماهى النظام السياسي مع الدولة فإنه عِندما يفقد النظام شرعيته أو يسقط، تتفكك عُرى الدولة وتنشب فيها حُرب وصراعات أهلية تُهدد وحدتها واستمرارها. وعبر مُتحدث آخر عن هذا المعنى بعبارتي الهشاشة الاجتماعية والهشاشة السياسية.
يُعد اختلاف الاجتهادات وتنوعها فضيلة لأنها تُصبح حافزًا على المزيد من التأمُل. ففي عالم الفِكر لا توجد إجابات أو حلول نهائية أو مُطلقة لأنّ سُنة الفِكر هي التَجدُد والتغيير.
("الأهرام") المصرية