نكبة جديدة أم تحول تاريخي؟ إذا تجاوزنا فرحة الانتصار وصدمة الإبادة، وما بينهما من احتشاد دولي غير مسبوق، وانكفاء عربي مخجل، ومن ألغاز لم نفلح بفك شيفرتها، وألغام نخشى ان نقع فيها، عندئذ يمكن أن نفكر بعقل بارد عن إجابات تستفز وعينا ويقظتنا، على الأقل، لفهم ما حدث، والاستعداد لما هو قادم، وأخذ ما يلزم من دروس لمواجهة أنفسنا وما فعلناه بها، ثم مواجهة الآخر، الحليف والعدو، لاكتشافه من جديد، لا أقصد الاكتشاف المعرفي، وإنما انكشاف وجه السياسي والعنصري، دون أي مكياج.
ما لم يصحُ العالم العربي، وأعتقد، حتى الآن، أنه لم يصح، فإننا أمام نكبة ثالثة تبدو أخطر مما حدث في العامين 48 و67 من القرن المنصرف، لا يخطر ببالي أن أثير الفزع، أو أبدو متشائما ومُثبطا، لكن ما نراه بأعيننا، بعد ثمانية أيام على واقعة غزة، يشير إلى ذلك بوضوح، لقد حان الوقت لتصفية القضية الفلسطينية، وحسم الفصل الأخير من الصراع عليها، هكذا تفكر تل أبيب، ومعها حلفاؤها الذين تبنوا روايتها، وتجمعوا، بما لديهم من إمكانيات عسكرية وسياسية، لمشاركتها في عدوانها، ليس ضد غزة فقط، وإنما ضد كل من تعتقد أنه يشكل خطرا عليها.
صحيح، قد تأخذ الحرب أحد مسارين : مسار محدود تكون فيه غزة هدفا للانتقام، ومسار أوسع تمتد فيه الحرب إلى أطراف أخرى، وتشمل أهدافا تشكل «السلة» الاستراتيجية للمشروع الصهيوني، لكن من يدفع الثمن في النهاية هو العالم العربي، خاصة الأقطار التي تراها تل أبيب ملاذات سهلة لتصدير أزماتها إليها، وإذا كانت الديمغرافيا، سواء في غزة أو الضفة الغربية، أبرز تهديد لمشروع الاحتلال، فإن الترانسفير سيكون فرصة لتحقيق فكرة الدولة اليهودية، كما سيكون باباً لإنهاء المقاومة، وفق التصور الصهيوني.
كنت أتمنى، وما أزال، أن يكون انتصار غزة فاتحة لتحول تاريخي يضع الفلسطينيين، ومعهم بلداننا العربية، على سكة السلامة والكرامة، أو أن يضعهم (أضعف الإيمان ) على طاولة تسوية جديدة بموازين قوة أفضل من الماضي، كنت أتمنى، أيضا، أن تصل رسائل ما حدث إلى عواصمنا العربية والإسلامية فنسمع كلاما آخر، أو حركة تردع هذا الصلف الدولي الذي انحاز للاحتلال، لكن هذا - للأسف - ما زال حلما بعيد المنال، ومن المفارقات أن تبرز إيران ومحورها كحليف لغزة، ثم يقف غيرها من أبناء «الملة « متفرجين على الفلسطينيين وهم يُذبحون، وعلى طهران وهي تتمدد، وتُنصّب نفسها «إماما « للدفاع عن المظلومين.
ليس لدي وصفة جاهزة لما يمكن أن نفعله لتجنب نكبة ثالثة، هذا يحتاج إلى فعل عربي كبير وموحد، وجاهزية لتغيير شامل في التحالفات القائمة، والأساطير التي بنينا عليها مواقفنا وعلاقاتنا مع بعضنا، ومع الآخر، أخشى ما أخشاه أن يكون ذلك متاحا بعد أن تقع الواقعة لا سمح الله، لكن ربما تكون أمامنا فرصة أخيرة، أرجو أن لا نفوتها، أقصد فرصة استخدام كل ما نملك من أوراق الضغط سياسي لوقف العدوان على غزة، أعرف أننا في الأردن نتصدى لهذه المهمة بكل ما لدينا من إمكانيات وعلاقات دولية وإقليمية، لكن وحدنا لن نستطيع أن نؤثر في عالم اغلق آذانه عن سماع أي رواية غير الرواية الصهيونية، الأمر الذي يستدعي « وقفة» عربية وإسلامية جادة، وهذا ممكن إذا صدقت النوايا، وصحت العزائم.
انتبهوا : إما نكبة ثالثة، أو تحول استراتيجي وتاريخي، الخيار الأول سيعيدنا إلى الوراء، وسندفع كلفته الباهظة من أمننا واستقرارنا، ومستقبل أجيالنا، وسينُصّب المحتل وكيلا أو شرطيا لمنطقتنا كلها، اما الخيار الثاني فسيزرع فينا روحا جديدة، وأملا بحياة أفضل، وسيجعلنا ندّا في هذا العالم الذي لا يحترم إلا الأقوياء، علينا أن نختار، فالتاريخ لا يرحم، والأجيال القادمة لن تسامح.
("الدستور") الأردنية