ترتبط الثقافة لدى كل أمة بلغتها الأصلية، حتى قيل عن (لغة الضاد) إن الشعر هو ديوان اللغة العربية، لذلك فإن الفكر العربي قديمه وحديثه مرتبط أشد الارتباط باللغة، باعتبارها لسان النطق وهي أداة التفكير وهي وعاء الحقيقة. لذلك فإن ثراء اللغة العربية يضع على كاهل المثقفين العرب مسؤولية أكثر من غيرهم في ثقافات أخرى وحضارات مختلفة، والمثقف العربي تكون لغته الأولى هي العربية؛ حتى إننا نعتبر أن تعريف العربي هو كل من كانت العربية لغته الأولى، وذلك لا يعني عزلة الثقافة العربية، فأبوابها مشرعة لدخول تيارات أخرى وأفكار متباينة، فالثقافة العربية عموماً منفتحة على غيرها، تأثرت بثقافات الجوار وبالتيارات الوافدة عبر تاريخ المنطقة، وما أكثر حالات الاشتباك بينها وبين غيرها.
وأستطيع أن أزعم أن أغلى سلعة تقدمها الأمة العربية للعالم المعاصر هي الثقافة، وليست النفط أو المياه أو السياحة؛ بل هي صناعة الحضارة التي عرفتها المنطقة العربية من الأهرامات إلى برج بابل إلى مدائن صالح إلى البتراء إلى الزيتونة والقيروان والأزهر الشريف، وكل معاقل التراث والفكر على الخريطة العربية، لذلك فإنني أدعو الآن إلى برامج سياحية مشتركة تضم مجموعة الآثار الباقية والبصمات التاريخية الكبرى لتكون تحت سمع وبصر المشاهد القادم إلى المنطقة العربية، وهو يحمل في ذاكرته زخماً كبيراً من الأفكار وحشداً من المعلومات عما يمكن أن يراه في كل بلد عربي، وتلك في ظني هي جزء من رسالة المثقفين في عالمنا المعاصر، فالتعريف بالعروبة لا يكون بالعبارات المعقدة أو الشعارات الصاخبة، ولكنه يكون بالتعرف على ما لدينا وهو كثير وما نملكه وهو عظيم، والمثقف العربي يتميز بسلبية المواقف رغم ثراء المعرفة لأنه يقيم حساباً يومياً لما يمكن أن يقول وما لا يمكن أن يقول. ونحن إذ نتطلع إلى مستقبل مختلف للثقافة العربية فإننا نضع أنفسنا أمام الاعتبارات الآتية:
* أولاً: إن مسؤولية المثقفين هي الأخذ بزمام الدولة والاتجاه به إيجابياً، والسعي نحو التحديث مع الحفاظ على توازن دقيق بين الأصالة والمعاصرة، والمثقف العربي ليس معزولاً عن التيارات السياسية المعاصرة؛ بل هو واحد من روافدها التي تغذي التربة التي تنبت الأجيال الجديدة. ولذلك فالمثقف العربي هو ابن أمّته وقرين لغته، وصنوٌ مباشر للمناخ السياسي والاقتصادي والاجتماعي في الفترة التي يعيش فيها والبيئة التي خرج منها.
* ثانياً: لقد تداخلت السياسة والثقافة في عصور متعددة، فلو أخذنا النموذج المصري على سبيل المثال، لوجدنا أن أسماء مثل: أحمد لطفي السيد وطه حسين ومحمد حسين هيكل باشا وغيرهم، كانوا كالعملة ذات الوجهين وجه سياسي وآخر ثقافي، في عصر لم تكن هناك فيه خصومة قائمة بين الثقافة والسياسة، بل كان كلّاً منهما يخدم الآخر، لذلك فإنه ليس غريباً أن نقول إن الحركة الوطنية العربية في الأقطار المختلفة، قد اعتمدت على سواعد المثقفين.
* ثالثاً: إنه مثلما كان محمود سامي البارودي هو سيد السيف والقلم، في توليفة نادرة بين قوة الجسد وعمق الفكر، فإن ذلك النموذج كان متكرراً في دواوين الشجاعة العربية وأشعار الحماسة وروافد الفكر، بل إن المثقفين العرب قد حملوا أيضاً لواء القومية في أوطانهم وفي المهجر، ولعل جبران خليل جبران هو نموذج فذّ لذلك النمط من الثقافة التي لا تتراجع، ولكنها تمضي مع روح العصر إلى أبعد مدى.
* رابعاً: لقد أسهم الإسلام الحنيف في دفع الثقافة إلى الأمام، مع تعزيز المعرفة واحترامها فقال تعالى: «ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ»، وقال أيضاً: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ»، ودعت المسيحية إلى الاهتمام بالفكر والمعرفة، حتى إن أديرة الرهبان ما زالت تحوي حتى الآن تراثاً ثقافياً ثقيلاً، أفاد الفكر واللغة وشدد على الروابط بين الحياة في الأرض والصعود إلى السماء.
إنني أقصد بهذه السطور، أن ألفت النظر إلى أن الثقافة ليست خصماً للحياة العصرية؛ بل هي داعم لها ومؤثر فيها ومرتبط بها.
(الخليج)