ذهب نتنياهو بكل غطرسة واستعلاء لتنفيذ عمليته الحربية في رفح، غير آبه بتحذيرات بايدن المشحونة منذ مجزرة "المطبخ المركزي العالمي"، ولا بوضع خطة لحماية المدنيين، وأمام الضغوط المتصاعدة عليه لم يجد بايدن سوى توصية فريقه "بالعمل مع إسرائيل لإلحاق هزيمة دائمة بحماس".
الأمر الإيجابي في سياق تبرير بايدن لايقاف شحنتَيّ القنابل الأمريكية، هو اعترافه وإقراره المتلفز بأنّ "مدنيين قُتلوا في غزّة بسبب هذه القنابل". اعتراف ناجم عن ضغوط الانتفاضة الطلّابية المتعاظمة أمريكيًا وعالميًا والتي نجحت في إجبار عدّة جامعات على إلغاء تعاقداتها وشراكاتها مع جامعات وشركات أسلحة اسرائيلية، وتبدو النجاحات الطلّابية أشبه بكرة ثلج تؤسّس لمسار احتجاجي عالمي كبير. اعتراف يشكل تذخيرًا قانونيًا وسياسيًا بانضمام ليبيا وبعدها مصر في خطوة بالغة الدلالات لدعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل بجرائم الإبادة الجماعية، وقد جحّظ بايدن وبعظمة لسانه انخراط إدارته فيها، تمامًا كما جحّظها التهديد المكتوب الذي وجّهه جنرالات الكونغرس الأمريكي للمدعي العام بمحكمة الجنايات الدولية كريم خان وتحذيره من إصدار مذكرات توقيف دولية بحق نتنياهو وقادة إسرائيل.
حرج كبير أصاب مصر وهي ترى "علمًا إسرائيليًا" يُرفع على إحدى الدبابات المتمركزة أمام معبر رفح
بدون شك، بات اقتحام رفح بوصفها آخر مدن القطاع التي يتوغّل شرقيّها جيش الاحتلال جزءًا مركزيًا في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، بدليل التخبط الذي تعيشه الإدارة البايدنية التي تتنازعها آراء ستنعكس في أصوات الديمقراطيين خصوصًا، حيال المسافة الآمنة التي ينبغي أن يتموضع فيها بايدن علّها تقيه السهام الترامبية. مسافة، تطلق يد إسرائيل في القضاء على "حماس"، دون التسبب بمقتلة كبيرة لمليون ونصف مليون فلسطيني تكتظ بهم رفح.
وبات شديد الوضوح أنّ موافقة "حماس" على "مقترح الوسطاء" كان بمثابة الضربة الاستباقية المحرجة لواشنطن وخصوصًا مدير المخابرات الأمريكية وليم بيرنز وقبله لوزير الخارجية أنتوني بلينكن صاحب نظرية "هناك مقترح على الطاولة وعلى حماس القبول به". ولعلّ جولة الاتصالات العامة التي أجراها رئيس المكتب السياسي لـ"حماس" إسماعيل هنية مع الأطراف الإقليمية، أظهرت مهارة تفاوضية تميّزت بالمرونة في تدوير المربعات أو تربيع الدوائر، واتسمت بصلابة التمسّك بالشروط المعلنة منذ الثامن من أكتوبر. رفض نتنياهو مقترح الوسطاء، أنهى المفاوضات وأطلق العنان لاجتياح رفح، ما دفع قيادة "حماس" لإجراء مشاورات مع قيادة الفصائل بهدف إعادة النظر في استراتيجية التفاوض، ما اعتُبر عودة للمربع الأول.
وإلى قرار بايدن تعليقه شحنات القنابل لإسرائيل، لا يمكن إغفال الحرج الكبير الذي أصاب مصر وهي ترى "علمًا إسرائيليًا" لا يوجد نظيره حتى على مباني الحكومة الإسرائيلية، يُرفع على إحدى الدبابات المتمركزة أمام معبر رفح بعدما عبرت "محور فيلادلفيا" الذي تحكمه اتفاقية كامب ديفيد وملاحقها الأمنية، والتي يبدو حبرها أغلى من كل الدماء التي أسالها الاحتلال طيلة 7 أشهر من العدوان على غزّة.
أغلب الظنّ لم يعد لنتنياهو ولا لفصائل المقاومة ما يخسرانه. فنتنياهو يقاتل على مستقبله السياسي وصورته التي يريدها أن تتقدّم في المخيال الصهيوني على بيغن وشارون. أمّا المقاومة فتقاتل لأجل مستقبل فلسطين وتحرّرها من نير الاحتلال مهما بلغت التضحيات كما يصرّح شعب غزّة كل لحظة رغم الموت والجوع والألم والنزوح.
ليس تفصيلًا أن تصبح فلسطين جزءًا من الوجدان الجمعي العالمي على حساب السردية الصهيونية و"أصفاد السامية"
وبديهي أنّ الشعب الفلسطيني الذي أطلقت قضيته منذ "طوفان الأقصى" ديناميات اجتماعية وسياسية وشبابية جديدة أخذت تهزّ العالم من أقصاه الى أقصاه، بات أمام محطات مفصلية من الصراع فوق فلسطين وعليها، وأمام حقوق لن تسقط بالاحتلال والتطبيع ولا بتقادم الزمن.
ليس تفصيلًا بسيطًا أن تتحوّل مفردة "فلسطين حرّة" الى أنشودة تصدح بها حناجر الطلاب بكل لغات العالم، وليس تفصيلًا أن يُغرس العلم الفلسطيني في أغلبية ساريات وساحات مدن وعواصم العالم. وليس تفصيلًا أن تصبح فلسطين جزءًا من الوجدان الجمعي العالمي على حساب السردية الصهيونية و"أصفاد السامية"، وأن تصبح حريتها قضية عالمية وإنسانية تفرض نفسها على أجندة شعوب العالم وحكوماته بدليل ما سنشهده خلال الشهر الحالي من اعتراف عدة دول أوروبية وغير أوروبية بدولة فلسطين. بمعنى آخر أنّ الفيتو الأمريكي المشؤوم ضد عضوية فلسطين في الأمم المتحدة التي مزّق ميثاقها مندوب إسرائيل فيها، فشل في كسر المسار والتصميم العالمي على الاعتراف بدولة فلسطين وحق شعبها في تقرير المصير.
استعلاء نتنياهو وغطرسته، أجهضا الاتفاق على وقف إطلاق النار، وأعادا الوسطاء إلى بلدانهم بانتظار جولة مفاوضات جديدة، ودفع كابينت الحرب إلى المصادقة على توسيع العملية العسكرية في رفح، ما كثّف الأسئلة التي تطرح نفسها. فماذا لو لم يحظَ نتنياهو بصورة النصر الموعودة؟ وماذا لو لم يحقّق أهداف الحرب؟ وماذا لو لم يحرّر الرهائن؟ وماذا لو لم يقطف رأس السنوار أو الضيف؟
وفي لحظة تهاطل العواجل الإخبارية عن أحداث سيئة وقاسية شرقيّ رفح نتيجة عمليات وكمائن المقاومة واستئناف رشق الصواريخ من غزّة الى بئر السبع! ماذا لو قُتل الأسرى الاسرائيليون بالقنابل الأمريكية الذكية المخزّنة لدى جيش الاحتلال كما صرّح دانيال هاغاري؟
بعض غيض الأسئلة، ينطلق من فيض المفاجئات التي تخبئها رفح بوصفها أم معارك غزّة، هذا ما تعكسه تمنيات وآمال نتنياهو وجنرالاته من التصميم على غزو رفح، وهذا ما ستعكسه تحضيرات "القسّام" وفصائل المقاومة وأعشاش الدبابير لمعركة رفح بوصفها أمّ المعارك من وجهة نظرهم أيضًا، لكن عودة الاحتلال إلى جباليا وحي الزيتون ليجابَه بمقاومة ملحمية فريدة أسقطت ادعاءات الاحتلال بالسيطرة على شمالي غزة.
في عنق زجاجة رفح يتخبّط بايدن وممرّ التطبيع الاقتصادي وحُشر نتنياهو ويمينه المتطرّف ومعهم أهالي الأسرى
لأجل رفح أطلق "أنصار الله الحوثيين" المرحلة الرابعة من عملياتهم التي ستشمل "إغلاق البحر المتوسط أمام الملاحة الصهيونية بالتعاون مع حزب الله" كما صرّح قيادي حوثي، وهي المرحلة التي استبقتها تركيا (بعد مماطلة بضعة أشهر دفع اردوغان ثمنها في الانتخابات المحلية نتيجة خذلانه لغزّة) بإيقاف تعاملها التجاري مع إسرائيل. كما أنها المرحلة التي رفع فيها "حزب الله" وبشكل لافت من وتيرة عملياته وبأسلحة نوعية ضد جيش الاحتلال ما دفع وزير الحرب الصهيوني للتهديد بـ"صيف ساخن" على لبنان، قبل أن تلتهم النيران كريات شمونة.
هكذا، تبدو رفح ومعها كل قطاع غزّة أشبه بزجاجة ذات عنق طويل، وفي عنق الزجاجة هذا يتخبّط بايدن وممرّ التطبيع الاقتصادي الهندي الخليجي الإسرائيلي الأوروبي، وأيضًا رصيفه البحري الذي استهدفته المقاومة بمدافع الهاون. وفي عنق الزجاجة هذا، حُشر نتنياهو ويمينه المتطرّف ومعهم أهالي الأسرى الذين هدّد بعضهم منذ أيام بإشعال تل أبيب إذا لم تبرم صفقة التبادل، وإذا ما نفّذ الأهالي تهديدهم فلا بدّ أن نشهد سحل نتنياهو في شوارع تل أبيب بعد أو خلال إشعالها.. في وقت تنشغل فيه إيران بقضيتها المركزية المحورية، وهي "تغيير عقيدتها النووية"!.
(خاص "عروبة 22")