من المعروف أنّ الرئيس السيسي كان شديد الحرص منذ توليه منصبه قبل عشر سنوات على عدم تصعيد المواجهة مع إثيوبيا والسعي للتوصل إلى اتفاق مع الدولة التي ينبع منها نهر النيل، بشأن مشروع "سد النهضة" التي انتهت إثيوبيا عمليًا من بنائه وتخزين كميات ضخمة من المياه خلفه دون أي اتفاق أو تنسيق مع الجانبين المصري والسوداني.
الرئيس المصري كان قد وافق على عقد جولات عديدة من المفاوضات مع إثيوبيا، بعضها بوساطة من إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، لضمان أنّ عملية ملء السد لن تنتقص من حصة مصر من المياه. كما قام بزيارة إثيوبيا ومخاطبة البرلمان وعقد عدة لقاءات مع رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد في أديس أبابا والقاهرة للتأكيد على رغبة مصر في التوصل إلى اتفاق واضح ينظم تدفق مياه نهر النيل إلى مصر ويضمن عدم تهديد أمنها المائي.
نشر قوات مصرية في الصومال سيُعد تصعيدًا مباشرًا وخطيرًا في مواجهة إثيوبيا
وانتقد بعض معارضي السيسي سياسته تجاه إثيوبيا التي اعتمدت الدبلوماسية والتواصل الشخصي كوسيلة لحل "أزمة وجود" للمصريين تتمثل في توافر مياه الشرب. ويتذكر المصريون جيدًا الزيارة التي قام بها آبي أحمد للقاهرة في يونيو/حزيران 2018 حين دفعه الرئيس المصري خلالها إلى القسم بالله - باللغة العربية التي يتقنها رئيس الوزراء الإثيوبي - أنه لن يضر بمصر، لكن آبي أحمد المحنك سرعان ما نكث بالقسم، واستمرت خطط إثيوبيا بلا توقف في بناء وملء "سد النهضة".
ولكن بعد عشر سنوات من المفاوضات غير المجدية، جاء الاتفاق الإثيوبي مع جمهورية أرض الصومال، التي لا تعترف بها أي دولة في العالم، ليكون بمثابة "القشة التي قصمت ظهر البعير" حيث رأت القاهرة أنه يمثل تهديدًا مباشرًا لمصالحها في البحر الأحمر المؤدي إلى قناة السويس التي تدهور دخلها بشكل حاد على مدار العام الماضي إثر قيام الحوثيين في اليمن باستهداف السفن هناك.
وإذا كان مقدرًا للحرب الإسرائيلية ضد غزة، والآن في مواجهة لبنان، أن تنتهي في وقت ما وتعود حركة الملاحة عبر قناة السويس إلى معدلاتها المعتادة، فإنّ التواجد الإثيوبي على البحر الأحمر سيمثل تهديدًا دائمًا للمصالح المصرية.
كما أنّ الاتفاق الاثيوبي مع جمهورية أرض الصومال الانفصالية أثار قلق عدة دول أفريقية أخرى لا ترغب بأن ترى ذلك النمو في النفوذ الإثيوبي في القارة السمراء.
وفور إعلان إثيوبيا عن توقيع اتفاق تأجير الميناء المطل على البحر الأحمر مع جمهورية أرض الصومال، سارع الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود إلى الاستغاثة بالقاهرة. وفي مطلع شهر أغسطس/آب وقّع السيسي ومحمود اتفاق تعاون عسكري أرسلت القاهرة بمقتضاه إمدادات عسكرية لمساعدة الجانب الصومالي في مجال مكافحة الإرهاب.
لم يسبق لمصر أن نشرت قوات خارج أراضيها بأعداد كبيرة منذ المساهمة في حرب تحرير الكويت من الاحتلال العراقي عام 1990. كما أنّ نشر القوات المصرية في الصومال، في حال حدوثه، سيُعد تصعيدًا مباشرًا وخطيرًا في مواجهة إثيوبيا، منذ تصاعد أزمة "سد النهضة".
يتداول خبراء مصريون خيار التدخل العسكري لحل الخلاف مع إثيوبيا، بل وبلغ الأمر حد المطالبة بضرب السد بالطائرات. ولكن هذا الخيار كان دائمًا شديد الصعوبة في ضوء الإمكانيات العسكرية المصرية وبُعد المسافة عن إثيوبيا والأوضاع الاقتصادية المصرية المتدهورة، وكذلك خشية القاهرة من تأثير مثل هذه الضربة على علاقتها الفاترة أصلًا مع العديد من الدول الأفريقية وعدم وجود دعم كافٍ على الصعيد الدولي.
مرحلة جديدة من العلاقات المتوترة مع إثيوبيا لحماية المصالح المصرية في مياه النيل وأمن الممر المائي في البحر الأحمر
كما أنّ نشر القوات المصرية تحت غطاء حفظ السلام في الصومال ومواجهة "حركة الشباب" المتطرفة سيضعها لأول مرة في مواجهة مباشرة هي الأقرب مع الجيش الإثيوبي، وهو ما أثار حفيظة أديس أبابا التي أصدرت سلسلة من البيانات تحذر فيها من عواقب التدخل المصري على الاستقرار في منطقة القرن الأفريقي. وأخيرًا، فإنّ الوضع شديد التعقيد داخل الصومال نفسها والقدرة المتواصلة لـ"حركة الشباب" على القيام بعمليات إرهابية دفعت عدة دول أفريقية إلى سحب قواتها من المستنقع الصومالي، وهو ما يؤكد أنّ تواجد القوات المصرية هناك لن يكون أمرًا سهلًا وقد يكون مكلفًا.
المؤكد أنّ الرئيس المصري بقراره توقيع اتفاق عسكري مع الصومال وإمدادها بالعتاد، وربما لاحقًا قوات من الجيش المصري، قد خلع "قفاز الدبلوماسية" في التعامل مع إثيوبيا ودخل مرحلة جديدة من العلاقات المتوترة بين البلدين لحماية المصالح المصرية، سواء فيما يتعلق بحصة مصر من مياه نهر النيل، والآن أمن الممر المائي الحيوي في البحر الأحمر.
(خاص "عروبة 22")