يروي مترجم سوداني عمل مع منظمة أجنبية تولّت التحقيق في الجرائم التي ارتُكبت في دارفور، أنهم زاروا قرية هاجمتها قوات الجيش بالطائرات والمدفعية الثقيلة فاحترقت كلها. وكانوا يتحدثون مع عمدة القرية الذي حكى عن تدمير المنازل والمزارع ونفوق المواشي، وأضاف أنه لم يُصَب أحد من أهل القرية. تدخّلت الموظفة الأجنبية لتسأل كيف نجا الناس من كل هذا القصف، فأجاب العمدة: "الناس يحميهم الله، هذه القرية لا تتوقف فيها قراءة القرآن أبدًا". فالتفتت الموظفة للمترجم تسأله: "أنا لا أفهم، أوَلَيس من المفترض أنّ الله يقف مع الحكومة الإسلامية..؟".
تاريخ الصراع في دارفور في مجمله هو صراع الرعاة المتجوّلين مع المزارعين المستقرّين
مع مرور الوقت، وظهور حركات مسلّحة في دارفور ذات انتماء قوي للتيارات الإسلامية، اتجهت الكتابات والتقارير اتجاهات موضوعية ومتنوعة تبحث في قضايا تقاسم السلطة والثورة وعلاقة السلطة في المركز بالهوامش وغياب التنمية المتوازنة وغياب الاعتراف بالتعدّد والتنوّع الثقافي واللغوي في البلاد...إلخ. وساهمت كتابات عدد من الكتّاب والباحثين من العالم الثالث وذوي الأصول الأفريقية، أمثال علي مزروعي ومحمود مامداني، في توسيع زاوية الرؤية وكشف الجوانب الأكثر تعقيدًا فيها. واحدة من أهم الكتابات في هذا المجال كتاب الباحث والأكاديمي السوداني الدكتور محمد سليمان "السودان: حروب الموارد والهوية- دار كامبريدج للنشر- المملكة المتحدة- الطبعة الأولى 2000م"، والذي ركّز على علاقة النزاع في السودان وأفريقيا بالصراع على الموارد والتغيّرات المناخية (الإيكولوجيا السياسية) التي أثّرت على حياة الناس في كثير من مناطق العالم الفقيرة.
تاريخ الصراع في دارفور في مجمله هو صراع الرعاة المتجوّلين مع المزارعين المستقرّين، وطوال عشرات السنين كانت هناك معاهدات واتفاقات محلية بين رؤوس القبائل تنظّم هذه العلاقة ومسارات تحرّك العرب الرحّل حتى لا يحتكوا بالمزارعين ولا يُدخلوا حيواناتهم في الزراعة. لكن مع التغيّرات المناخية وزيادة رقعة التصحّر التي ضربت المناطق تداخلت المسارات وكثرت النزاعات. وبدأت عمليات التسليح بكثافة من فترة السبعينات بتأثير من الصراع على السلطة في تشاد والذي كان مثل لعبة الدومينو، كلّما جلست مجموعة مسلحة على السلطة ثارت عليها مجموعات أخرى وطردتها من السلطة فتلجأ للحديقة الخلفية وهي دارفور، ويبيع افراد الميليشيات أسلحتهم لقبائل دارفور. وزاد من تعقيد الأمر أنّ معظم قبائل دارفور لديها ارتباطات بنظائرها في دول الجوار، ومنها تشاد، مثل الزغاوة والمساليت والرزيقات وغيرها من القبائل.
أخذ الصراع وجهه القبلي من كون معظم الرعاة هم ممّن يُسمّون بالقبائل العربية، بينما المزارعون المستقرون هم من القبائل المصنّفة أفريقية، أو ما يسمى في اللهجة المحلية بـ"الزرقة"، واللون الأزرق في العامية السودانية هو الأسود. وواحدة من نقاط التعقيد في النظر لأحداث دارفور أنّ القبائل العربية هي الأكثر تهميشًا، إذ هي قبائل رعوية بدوية غير مستقرة تنخفض نسبة التعليم بين أطفالها وتكاد تنعدم كلّ خدمات الدولة بسبب عدم استقرارها. ورسمت الحياة البدوية الرعوية القاسية طابعها عليهم، فاتّسموا بالشراسة والترابط القبلي. عامل آخر أثّر في هذا التقسيم هو أنّ معظم الحركات المسلحة في دارفور من القبائل المصنفة أفريقية، فاتجهت الحكومات لاستقطاب مقاتلي القبائل العربية والاستعانة بهم في مواجهة الحركات المسلحة. واتخذت هذه المجموعات أسماء متعددة حتى انتهت إلى "قوات الدعم السريع".
تقسيم القبائل نفسها لأفريقية وعربية هو تقسيم إشكالي يفتقد للمنهجية، فكلّ هذه القبائل أفريقية بالضرورة بحكم وجودها في أفريقيا. ويصعب على أيّ قادم من خارج السودان التفريق بين هذه القبائل بالاعتماد على الملامح واللون. ففي حين تتّسم بعض القبائل العربية بالملامح الرقيقة في الأنف والوجه مع لون يميل للأسمر الفاتح، نجد أنّ الأغلبية يصعب التفريق بينها على أساس اللون والملامح. العامل الأساسي في التفريق بين المجموعتين هو اللغة. وإذ يتحدث معظم أهل دارفور العربية، فإنّ القبائل المصنّفة عربية ليس لديها لغة أخرى، ومنها الرزيقات والهبانية والبني هلبة والتعايشة والمعاليا، وعشرات غيرها، بينما تمتلك القبائل المصنّفة أفريقية لغة أخرى إلى جانب اللغة العربية، مثل قبائل الفور والزغاوة والمساليت والميدوب والتاما والتنجر.
تبسيط الصراع بين عرب وأفارقة لا يصلح لشرح الأوضاع الحقيقية التي هي أكثر تعقيدًا مما نظنّ
بظهور "قوات الدعم السريع" التي تتكوّن في الأصل من أبناء القبائل العربية أحسّت هذه المجموعات بأنّ لديها ظهيرًا قويًا، بينما احتمت القبائل الأخرى بالحركات المسلحة، وهكذا انتقل الصراع لمستوى آخر، ورجعت مرة أخرى صورة الصراع القائم على الهوية (عرب ضد أفارقة). إذ ما أن يبتدئ نزاع مسلح بين مجموعات سكانية حول الأرض، ينخرط المقاتلون من أبناء المجموعات المختلفة الموجودين في القوات النظامية، بما فيها "الدعم السريع"، في هذا القتال، مثلما حدث في الجنينة مؤخرًا.
خلاصة الأمر أنّ التبسيط الشديد للصراع في دارفور (عرب- أفارقة) قد يبدو سهلًا ويمكن فهمه واستيعابه بسهولة، وله نماذج شبيهة في دول أخرى، لكنه لا يصلح حقيقةً لشرح الأوضاع الحقيقية التي هي أكثر تعقيدًا مما نظنّ، ولا يساعد على البحث عن حلول، ولا مناص من إعادة قراءة الواقع بكل تعقيداته واتخاذ مداخل مختلفة في محاولة لفهمه.
(خاص "عروبة 22")