العرب والتحوّلات الاستراتيجية

استنهاض العرب قبل فوات الأوان! (2/2)

لا يُمكنُنا في سياق استكمال هذا المقال، إلّا أن نتوقّف أمام السّلوك السّياسي العربي خلال حرب إسرائيل الرّاهنة ضد فلسطين، هذا السّلوك في أبسط وصْف له ينتمي إلى نمطٍ شاذٍّ في العلاقات الدّوليّة، لا مبرّر عقلانيًّا له إلّا إذا توافق المسؤولون العرب على أنّ الكُمون الطّويل الأمد الذي اختاروه مذهبًا سياسيًّا أو فُرِض عليهم فرضًا كان الخيار الأمثل لحمايتِهم من تداعيات انفعال الجماهير العربيّة وبالتّالي حمايتهم من إسرائيل وغضب كلٍ من أميركا والمملكة المتّحدة والأذرع الطّويلة للصّهيونيّة العالميّة.

استنهاض العرب قبل فوات الأوان! (2/2)

أسوق فيما يلي أمثلة حيّة على قوّة وفاعليّة مبادئ وسياسات الكُمون الاستراتيجي الذي تبنّته "الجماعة الحاكمة" في النّظام الإقليمي العربي:

أولًا: أُوقفت العمل بنظام "القاطرة" التي كانت تجرّ أو تقود عربات القطار السّياسي العربي. الحديث يطول عن العناصر الّتي دفعت إلى هذا التّوقّف، فبعضها داخلي، أيْ يمتّ مباشرةً بصلات عديدة إلى أهمّ مكوّنات الطّبيعة الجديدة للنُخب الحاكمة العربيّة الرّاهنة والتّطوّرات الاجتماعيّة الحاصلة في كافّة الدّول العربيّة، ولكنّ أكثرها خارجي.

فشلت الجماعة الحاكمة في تعديل ميثاق جامعة الدّول العربيّة ليصبح أداةً نحو هدف التّكامل العربي

ثانيًا: خضعت وأُخضعت قطاعات مؤثّرة في أقطارِها، للقيم والقواعد التي احتوَت عليها سياسات نظام "التّطبيع". لاحظ مثلًا كيف أنّ المطبّعين العرب لم يشكّلوا حتّى الآن جماعة تجمع أو تنظيم ينظّم أنشطة وتوجّهات كلّ المُمارسين العرب للتّطبيع. بل ولعلّه تسبّب في المزيد من الفرقة وإبطال خطط وسياسات التّكامل في جامعة الدّول العربيّة والمزيد من محاولاتٍ قُطريّة فرديّة للتّعامل مع التّطبيع بصفته القوّة الخارجيّة الوحيدة القادرة نظريًّا، ومن دون تنظيم، على ردع المخالفين والمختلفين معه.

ثالثًا: فشلت الجماعة الحاكمة فشلًا مستمِرًّا، ويكاد أن يكون مُمعنًا، في تعديل ميثاق جامعة الدّول العربيّة ليصبح في حد ذاته أداةً للعودة إلى تحقيق درجاتٍ ولو تمهيديّة نحو هدف التّكامل العربي. فشلت أيضًا، ويكاد هو الآخر أن يكون فشلًا مُمعنًا، في السعي نحو تفاهمات جماعيّة مع مجموعة الدّول غير العربيّة في الشّرق الأوسط. أكثر من دولة شرق أوسطيّة استطاعت أن تضع وتنفّذ برامج ردع استراتيجي بعد أن صارت واثقةً من أنّ إسرائيل لن تتخلّى عن أمل التوسّع في فلسطين ثم في خارجها بحجّة تأمين حدود توسّعها.

الخطاب الرّسمي العربي صار في غالب الأحوال يخلو من رموز العقيدة القومية وقيمها وأهدافها

رابعًا: انحسرت، بفضل نوايا أكيدة وسياساتٍ هادفة، عقيدة النّظام الإقليمي العربي. أكاد بعد البحث المُضني أؤكّد أنّ مظاهر إيمان نُخبٍ حاكمة في العدد الأكبر من الدّول العربيّة بالعقيدة القوميّة تكاد أن تختفي. مثال على ذلك الخطاب الرّسمي العربي الذي صار في غالب الأحوال يخلو من رموز هذه العقيدة وقيمها وأهدافها. وصل الإنكار إلى حد استنكار بعض الإعلاميّين الموجَّهين أو المكلَّفين لخطاب عربي أو نشيد وطني أو التزام نهضوي تفوح من بين سطوره رائحة التزام قومي.

لا جدال، وللأسف، يبقى الموقف الإعلامي الرّسمي الرّاهن من حرب الإبادة الإسرائيليّة دليلًا كاشفًا على مدى انحسار الالتزام بأهداب العقيدة القوميّة في صفوف النُّخب الحاكمة العربيّة وقطاعات مؤثّرة من صنّاع القوى النّاعمة في العالم العربي.

الاستنهاض ضروري ولا غنى عنه، إن شئنا بناء مستقبلٍ تتوفّر فيه حياة كريمة وآمنة لبنات وأبناء هذه الأمّة... الطريق طويلة ومحطّاتها كثيرة:

أوّلها: توليد نُخب وقيادات مقتنعة بجدوى العودة إلى المنهج القومي - جرّبناها ونجحت -.

ثانيها: وقف التّدهور الناتج عن الانسحاق النيوليبيرالي السّائد في المنطقة. أخشى أن يثبت أنّه أصعب المهامّ في ضوء الانشقاقات والتّحوّلات الاجتماعيّة والدّيموغرافيّة التي حدثت بفعل فاعل في الكثير من أقطارنا العربيّة في السّنوات الأخيرة.

ثالثها: الاستعداد المُمَنهج في كلّ أو معظم دول المنطقة العربيّة، لتكون المنطقة جاهزة بآراء وسياسات وسلوكيّات تخدم نظامًا دوليًّا جديدًا يجري وبحماسةٍ شديدةٍ إخراجه، كما تجري أيضًا وبحماسةٍ أشدّ محاولات إجهاضه. نشارك في اختيار وصياغة القواعد الّتي يقوم عليها النّظام الجديد. نقرّر ومن واقع التّجربة العربيّة أيّها أفضل لمستقبل هذه الأمّة، نظام الهيمنة أم الثّنائي القطبيّة أم متعدّد الأقطاب، وكلّها وربّما مع غيرها مطروحة خلال عقدَيْن مقبلَيْن أو ثلاثة على الأكثر.

إسرائيل لن تسمح بوجود عرب أصحّاء وأقوياء يتحرّكون حولها في أمن ورخاء وإرادة قوميّة

رابعها: دعوة كلّيات السّياسة ومراكز البحث العلمي والدوريّات الأكاديميّة ومعاهد الدّيبلوماسيّة ومجالس الشّؤون الخارجيّة في كافّة الدّول العربيّة لدراسة سبل وأدوات الارتقاء بممارسات السّياسة الدّوليّة وعلاقاتنا بالعالم الخارجي عمومًا، لكن وبشكلٍ خاصّ وجهدٍ حثيث بمستقبل علاقاتنا بمجموعة الدّول غير العربيّة في الشرق الأوسط وبدول عالم ينشأ من جديد في الجنوب بطاقةٍ هائلة.

خامسها: يبقى من الضّروري أن يسود الاعتقاد الجازم لدى كافة النّخب الحاكمة في العالم العربي أنّ إسرائيل بالتّطبيع وبالتّفوق العسكري، أيّهما أو كلاهما، لن تسمح ببساطة بوجود عرب أصحّاء وأقوياء يتحرّكون حولها في أمن ورخاء وإرادة قوميّة. 


لقراءة الجزء الأول

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن