مرّ تاريخ 17 ديسمبر/كانون الأول، وجاء تاريخ 14 يناير/كانون الثاني، ومعهما يستحضرُ التّونسيّون أسبابَ اندلاعِ الثّورة وشعاراتِها الكبرى وهم يراقبون كيف أفْلتت كلّ الأهداف والتطلّعات تِباعًا، حتى بلغوا المرحلةَ التي باتوا يدْفَعون فيها أثمانًا باهظةً لمجرّد كلماتٍ ناقدةٍ للسّلطة، وهم الذين كانوا يفاخِرون حتّى وقتٍ قريبٍ بمَكْسَب حرّية التّعبير.
ولا تتوقّف الأمورُ في حدودِ السجن أو الإيقاف بسببِ الآراء النّاقدة للسّلطة، بل تتعمّد السُّلطة التّنكيلَ بمن يُعْلِي صوته في وجهها داخلَ السّجون من أجلِ إذلالِه وقمعِه وترهيبِه. وهناك العديد من الصّحافيين والنّشطاء والمُدوِّنين والسِياسيّين وعمومِ المواطنين مِمّنْ يعانونَ من هذا المَصير، من بينِهم المحامية والإعلاميّة سنية الدّهماني التي أودعَت السّجن لمجرَّد أنَّها انتقدَت سياساتِ السُّلطة في ملفّ الهِجرة في برنامجٍ تلفزيوني، وهي تُعاني من التّنكيلِ المُمَنْهَجِ ضدّها في زنزانتِها العَفِنَة.
تقول رملة الدّهماني، شقيقةُ سنية الدهماني: "تعيش شقيقتي وضعًا صعبًا في سجنِها الذي دخلته ظلمًا، فقد أُنْهِكَت جسدًا وروحًا بسببِ الممارساتِ المسلّطة عليها من بابِ التشفّي. ففي الزّيارة الأخيرة التي تنتظرُها كلّ أسبوع من أفراد عائلتِها، وجدَها والدي وشقيقي مُنهكةً مُتّسخةً، حالتها يُرْثَى لها وعليها آثار حرْق وتشكو من الرّوماتيزم جرّاء ظروفِ الإقامةِ المُزريَة والاستحمام الذي أصبح بمثابة الكابوس ذلك أنَّ عُطْلًا طرأ على حنفيّة الاستحمام بالسجن من دون أن يتمَّ إصلاحه، فبات على السجيناتِ إما الاستحمام بماءٍ باردٍ جدًا أو ماءٍ ساخنٍ جدًا. وبعد تجربةٍ مريرة مع الماء البارد في مناسباتٍ سابقة، وبسبب برودةِ الطّقس اختارت سنية الماءَ الساخِن ليحترقَ جزءٌ كبيرٌ من جسدِها الذي باتت آثار الحروق تكسوه. وبسببِ هذا الوضعِ لم تعد قادرةً على غسْل ملابسِها ولا حتّى على تنظيفِ نفسِها وباتت مُتَّسِخَةً كما أرادوا لها".
وأضافت: "لم تقفْ الأمور عند هذا الحدّ، فقبل موعد الزيارة بخمسة أيام، أُغْمِيَ على سنية وتقيّأت من دونِ أن تفهمَ والنّساء اللّاتي معَها سبب ذلك، لتكتشفنَ فيما بعد أنَّ هناك فئرانًا قد عَبَثَت بقنواتِ المرْحاض فانطلقت الرّوائح الكريهة للغرفةِ الضيّقة في سجنهنَّ ولا سيما أنَّ المرحاضَ موجود داخل الغرفةِ وبلا باب. ووجدت سنية والنِّساء الثلاث اللّاتي تشاركنَها الغرفة الفئرانَ تجري بين أقدامهنَّ. إنّهم يحاولون إذلالَها وتدميرَها جسدًا وروحًا، وقد منعوا عنها الجرائِد والرّاديو والتلفاز، حتّى الرسائِل التي نرسلها لا تصل إليها".
لا ينتهي مسلسلُ الظلم وراء أبواب السّجون فقط، ففصول التّنكيل عديدة، إذ تتعمّدُ السُّلطة التونسيّة تركَ مساجين الرّأي يقتربون من تاريخِ نهايةِ عقوبتِهم السِّجنيّة، لتختلقَ لهم اتِّهامات جديدة كافية لتمديدِ مدّة سجنهم مجدَّدًا. وهي خطوةٌ تهدفُ من ورائِها السلطة إلى ضربِ معنوياتِهم وترهيبِهم حتى لا يُقْدِموا مُجَدَّدًا على نقدِ سياساتِها. وهو ما حدثَ قبلَ أيام مع الصِحافيَّيْن مراد الزغيدي وبرهان بسيس اللّذَيْن صدرَت بحقِّهما بطاقتا إيداعٍ بالسجن قبل نهاية مدّتهما السجنيّة بأسابيعَ قليلة وبتُهَمِ "تبييضِ وغسْل الأموال". علمًا أنَّ الزغيدي وبسيس قد حوكما بثمانيةِ أشهر سجن في مايو/أيار الماضي على خلفيّة منشوراتٍ وبرامج إعلاميّة تعود لسنة 2020 وتمَّت مقاضاتهما حسب الفصل 24 من المرسوم 54 سيّء الذكر.
وارتفعت وتيرةُ المُحاكماتِ الجائرة والإيقافات التعسُّفية ضد النّشطاء والمُدَوِّنِين والصحافيّين وعموم المواطنين بسبب التّعبير عن آراء ناقدةٍ للسّلطة سواء عبر وسائل الإعلام أو من خلال التَّدوين على شبكات التّواصل الاجتماعي وخصوصًا "فيسبوك"، إذ ناهزَت الملاحقات القضائية التي طالت الصحافيين 40 قضية، فضلًا عن إيداع خمسة صحافيين السّجن في محاكماتٍ على معنى المرسوم 54.
وفي سبتمبر/أيلول الماضي، نَدَّدَ تقريرٌ صادرٌ عن "منظمة العفو الدولية" بـ"تعرّضِ أكثر من 70 شخصًا، من بينهم معارضون سياسيّون، ومحامون، وصحافيون، ومدافعون عن حقوق الإنسان ونُشطاء، للاحتجاز التعسُّفي أو الملاحقاتِ القضائية أو كليهما منذ نهاية 2022".
رئيس المرصد التّونسي لحقوق الإنسان (منظمة حقوقيّة غير حكوميّة) مصطفى عبد الكبير قال لـ"عروبة 22" إنَّ "الزَّجَّ بسياسيين وصحافيين وحقوقيين في السّجون التّونسية يُشكّل منعرجًا خطيرًا في المسار الانتقالي الذي سلكته البلاد بعد سقوطِ نظام الرّئيس الرّاحل زين العابدين بن علي، إذ بِتْنَا نسجِّل بشكلٍ متواترٍ ضربًا لحرّية التّعبير وتضييقًا على أنشطةِ الأحزاب السياسيّة والمنظّمات الحقوقيّة نتيجةَ الرّقابة الأمنية التي تفرضها السّلطة".
وتتّجه السُّلطات التونسية لإسكاتِ الأصواتِ الناقدةِ لها عبر فتح أبواب السجون على مصراعيْها، في الوقت الذي تفشل فيه في إيجاد حلولٍ لأزمات البلاد الاقتصاديّة والاجتماعيّة والماليّة!.
(خاص "عروبة 22")