في هذا السّياق، فإنّ الإحصائياتِ التي أوردَها الإعلانُ الأممي تشير إلى أنَّ واحدةً من كلّ ثلاثِ نساءٍ تتعرّضُ للعنفِ الجسدي و/أو الجِنسي من الشريكِ الحميمِ، أو العنف الجِنسي من غيْرِ الشّريك، أو كليْهما، مرةً واحدةً على الأقلّ في حياتِها. كما أنَّ هناكَ أكثرَ من 51100 امرأة في عام 2023، انتهَت بهنَّ دورةُ العنفِ القائمِ على النّوعِ الاجتماعي بفعلٍ أخيرٍ ووحشيّ وهو أنّهنَّ قُتِلْنَ على أيادي شركائِهنَّ وأفرادِ أُسَرِهِنَّ. وهذا يعني أنَّ امرأةً تُقتلُ كل 10 دقائِق!.
طِبقًا لهذا الإعلانِ خرجَت نساءٌ في مظاهراتٍ حول العالمِ للتّنديدِ بالعنفِ ضدّ النّساء في إطارِ الأُسْرةِ فقط، ولم يصرُخْن مثلًا لوقفِ الحروبِ التي هي أعلى درجاتِ ممارسةِ العنف ضدّ النّساء من حيث إجبارِهِنَّ على النّزوحِ القسْري كما الحالةُ في غزَّة ولبنان أو تعرّضِهِنَّ للاغتصاب وهو أعلى درجاتِ العنفِ اللاإنساني ضدّ المرأةِ كما الحالة في السّودان.
ضحايا الحروب من النّساء يَزِدْنَ عن حجم ضحايا العنف الأُسَري
المدهشُ بالنّسبةِ لي هو أنَّ هذه المظاهراتِ النّسائيةَ قد خرجت في فرنسا وأميركا اللّاتينية، بينما لم نرَ عاصمةً عربيةً قد استجابَت للنّداءِ الأممي لا من زاويةِ طرحِه أي مناهضةِ العنفِ المنزلي، ولا من زاويةِ قصورِه أي عدمِ الانتباهِ أو عزْلِ عنفِ الحروبِ والصِّراعاتِ المسلّحةِ التي نشهدُها حاليًا في ستِّ دولٍ عربية، وانعكاساتها على النّساء العربيّات، بل إنَّ المدهِشَ أنَّ سياسيّةً سودانيّةً مرموقةً قد مارسَت في مناسبةٍ عامةٍ انعقدَت أخيرًا في القاهرة فعلَ التَّجَاهُلِ للاغتصاب في بلادِها واعتمدت المفهومَ الأمَمي القاصِر على العنفِ الأسري وذلك على الرَّغم من أنَّ منظماتٍ سودانيةً غير حكوميةٍ قد رصَدَت أنَّ عددَ ضحايا الحربِ السودانيةِ يتجاوزُ ألفَ قتيلٍ يوميًّا 30% منهم من النّساء على الأقلّ وهو ما يثبتُ للجميعِ أنّ ضحايا الحروب من النّساء ومُعاناتهنَّ يَزِدْنَ عن حجم ضحايا العنفِ الأسَري مع التأكيد على قدسيّةِ كلّ روحٍ بشريةٍ بالتّأكيد.
قد يقودُني القصورُ الأممي، في عدمِ شمولِ مفهومِ مناهضةِ العنفِ ضدَّ النّساء للحروبِ والنّزاعاتِ المسلّحة، إلى أنّ هناك ممارساتٍ نرصدُها على الصّعيد العالمي ظاهرُها الانتصارُ للإنسانيةِ وحقوقِ الإنسانِ بينما هي تركُنُ إلى استهلاكِ المفاهيمِ على نحوٍ مسرحيٍ إلى حدٍّ ما بمناهج إبراءِ الذمَّة وليس السعي الحقيقي لتأسيسِ البديلِ المطلوبِ للاقتراب من حالةِ احترامِ حقوقِ الإنسان.
من هنا ربّما يكون علينا نحن النّساء العربيّات المنخرطات في الدِّفاع عن حقوق الإنسانِ بشكلٍ عامٍّ وحقوقِ وتمكينِ المرأةِ بشكلٍ خاصّ الانتباه إلى عدم الركون إلى حالةِ استهلاكِ المفاهيمِ والمَسْرَحَةِ التي يتمُّ ممارستُها حاليًّا والتّركيز على المعاناةِ الأشْمَلِ التي نُجَابِهُهَا في هذه المرحلة، وهي النَّاتجةُ عن حروبٍ تسبَّبَ فيها صراعاتُ النّظام الدولي من ناحيةٍ، والطموحُ الأميركي - الإسرائيلي من ناحيةٍ أخرى لإعادةِ توازناتِ القوى في المنطقةِ على نحوٍ يضمنُ قيادةً إقليميةً لإسرائيل.
على المنظمات أن تمارسَ الضغوط حتّى تكون معاناة النّساء العربيات النّاتجة عن الحرب مطروحةً على الطّاولة العالمية
في هذا السّياق، فربَّما يكون علينا مثلًا ترتيبُ أجندةِ مناهضة العنف ضدَّ المرأة في العالمِ العربي ليكونَ الاغتصابُ والنّزوحُ القسْري هو أكثر ما نهتمُّ به كأولويّاتٍ في عملِنا بكافّةِ أشكالِه.
وربَّما يكون على المنظماتِ النّسويةِ والحقوقيّةِ المعنيّةِ بالدّفاعِ عن حقوقِ الإنسانِ بشكلٍ عامّ وحقوقِ المرأةِ بشكلٍ خاصّ أن تمارسَ حالةَ تفاعلٍ وضغوطٍ لتعديلِ المنظورِ الأممي في المستقبل حتّى تكونَ معاناةُ النّساءِ العربياتِ النّاتجة عن الحربِ مطروحةً على الطّاولةِ العالميةِ كما هو مطروحٌ اليوم العنف الأسري، وربّما يكون هذا المجهودُ هو أحدُ أبوابِ العملِ لوقف الحروبِ والنّزاعات المسلّحة سعيًا وراء سلامٍ نتمنّاه في منطقتِنا بعد أن أهلكتْنا الحروبُ والصّراعات.
(خاص "عروبة 22")