ما ينطبق على "حياكة السجاد" يتطابق مع نظريّة "الصبر الاستراتيجي" التي ابتدعها دهاقنة طهران أثناء تغوّلهم في العواصم العربية بهدف رسم معادلات المنطقة، وكما هو معلوم، فمآلات الصبر الاستراتيجي وتداعياته العكسية أرخت بظلالها على حياكة السجّاد.
ليس تفصيلًا أن تفشل إيران في فكّ الاختراق الذي فتك بـ"حزب الله" وزعيمه التاريخي حسن نصر الله الذي كان أكثر إبداعًا، بل وإقناعًا، في التنظير لنظرية "الصبر الاستراتيجي" و"الذبح بالقطنة" من أصحابها الأصليين.
إيران فشلت في رتق خرق "الموساد" في جسد النظام
من دون شكّ، مقتلة نصر الله قضّت مضاجع جنرالات إيران وعمائمها السوداء. لكنّ مقتلة جنرالات الأركان والحرس الثوري، محمد باقري وحسين سلامي ونوابهم ومساعديهم ومعهم ثلّة من علماء التخصيب النووي، بَيَّنَت أنّ إيران فشلت في فكّ لغز الاختراق، كما وفي رتق خرق "الموساد" في جسد النظام الإيراني وأورِدته المُتشعّبة في مفاصل البلاد وشرايين تضاريسها الاستراتيجية.
شيء ما بعد سريالي، ذلك الذي لطم إيران على وجهها، على الرَّغم من معرفتها، أنّ استعداءها بلغ مرحلة تجاوز النوايا بالأفعال. لا فائدة من تعداد الانفجارات الغامضة المعلومة المجهولة، ولا من تعداد الاغتيالات الكبيرة كـ"محسن فخري زادة"، الهادفة إلى العبث بهيبة النظام تمهيدًا لتقويضه.
الأمر البالغ الخطورة كان في سيناريو الرواية الإيرانية المُتدرّجة لاغتيال الرئيس السابق إبراهيم رئيسي ومعه حسين أمير عبد اللهيان في تلك المروحية التي "عبثت" بها الأرصاد الجوية. لقد بلعَت القيادة الايرانية اغتيال رئيسي وغيره ممّن سبقوه تجنّبًا لمواجهة "لحظة الحقيقة القائمة" اليوم، تمامًا كما بلعَت بعده اغتيال إسماعيل هنية، وأيقونة "محور المقاومة" المُطوّب حسن نصر الله.
بدت ساعات ما بعد الضربة غير المسبوقة، في رمزيّاتها العسكرية والنووية والسياسية والأمنية والاستخبارية، طويلةً وعصيبةً في إيران، وعلى امتداد المنطقة. وبدا بنيامين نتنياهو المُختال زهوًا بالرؤوس الدسمة التي قطفها وهو يرفع إصبع التهديد والوعيد الذي كان لزمنٍ قريبٍ ملكيةً فكريةً حصريةً لأحد ضحاياه الكبار.
ثمّة تغيير كبير أحدثته الضربة الإسرائيلية لإيران. لقد حصدت رؤوسَ مُهدّديها الذين تناوبوا على إطلاق صليات صواريخهم الصوتية: "قادرون على تدمير اسرائيل خلال 7 دقائق ونصف"!.
ليس تفصيلًا اغتيال قادة الحرس الثوري وهيئة الأركان والقوة الجوفضائية، ونحو تسعة عقول نووية، والأهم ليس تفصيلًا تحييد قائد "مقر خاتم الأنبياء" غلام علي رشيد الذي سبق وكشف مكنونات مُلهمه قاسم سليماني وهو يُخبره عن "الجيوش الستّة العربية التي أنشأها للدفاع عن طهران!".
في خطابه إلى الشعب الإيراني، بدا نتنياهو ثملًا من سكرة الغطرسة وهو يحتار بين أن يتقمّص دور "الأم تريزا" الإنساني، أو نيلسون مانديلا الشاهد بأجياله المُتعاقبة على جرائم الإبادة الجماعية المُتمادية التي تقترفها إسرائيل على مدار السّاعة في غزّة ولبنان وسوريا واليمن!.
تفكّك "الصبر الاستراتيجي الخامنئي" أمام "الخداع الاستراتيجي الترامبي"
شيء من البتر والانقطاع في تعبيرات حركة التاريخ نتيجة الضربة التي أصابت إيران. الكثير من حلقات السيناريو وأدبيّاته المكرورة، خرجت من بورصة التداول، وخرجت معها معادلات "حياكة السجاد" و"الصّبر الاستراتيجي" والأهم "تدمير إسرائيل خلال 7 دقائق ونصف". بداية الخروج كانت في كسر "أذرع" إيران أو تهشيمها، وبهذا ذهبت مكنونات قاسم سليماني إلى غلام رشيد أدراج الرياح، ولم يتبقَّ منها إلّا "حركة أنصار الله الحوثيين" الذين يدفعون أثمانًا باهظة.
أوّل تنازل قدّمته طهران، كان قبولها التفاوض مع قاتل قاسم سليماني، علّها تستطيع النجاة من مصيدة دونالد ترامب. والنتيجة تفكّك "الصبر الاستراتيجي الخامنئي" أمام "الخداع الاستراتيجي الترامبي" الذي جعلت تصريحاته الحرباوية إيران تعتقد بانعدام قصفها تحت خيمة التفاوض. لكنّ ترامب فعلها، وكلّف نتنياهو تنفيذ مهمة "الأسد النّاهض" المؤجّلة منذ سنين.
باتت إيران على قناعةٍ راسخة، بأنّ مطالب وقف التخصيب، والتخلّص من الصواريخ الباليستية، والتخلّي عن بقايا الأذرع في العراق واليمن، هي المكياج الشكليّ للهدف الحقيقي وهو "إسقاط النظام"، وجعل إيران دولةً منزوعة الأظافر والأنياب ويُديرها معمّم بربطةِ عنقٍ يشبه بول بريمر.
هنا، وهنا فقط، وجد النظام الإيراني نفسه أمام حالة انكشاف خطير داخليًا وخارجيًا، وهو يرى قلاعه وحصونه وأنفاقه ومفاعلاته تتهاوى أمام عينيه، فكان لا بدّ من التحرّك بهدف البقاء، فصبّ جامّ صواريخه على تل أبيب التي أصيبت بدمارٍ لم تعرفه في تاريخ الصراع.
لقد أخرج الايرانيون بعض ترسانتهم الصاروخية، وجثث قياداتهم لم تَزَلْ على الأرض، وسارع المرشد الايراني علي خامنئي لإعادة بناء منظومة القيادة والسيطرة التي ذهبت بانضباطٍ كبيرٍ إلى الثأر والانتقام بعيدًا عن "الصبر الاستراتيجي" و"حياكة السجّاد". انضباط تجلّى لتاريخه بامتناع إيران وأذرعها عن المساس بالمصالح والقواعد الأميركية في المنطقة، كالذي اعتُمد زمن الإسناد لغزّة، على الرَّغم من أنّ أميركا تُقدّم إسنادًا دفاعيًا لإسرائيل في مواجهة الصواريخ والمُسيّرات الايرانية. وفي حال تحوّل القوات الأميركية من الإسناد الدفاعي إلى الإسناد الهجومي تكون المنطقة دخلت مرحلة الحرب المفتوحة، أو الحرب الإقليمية الشاملة، التي ستدفع ترامب لاستعارة عبارة برنار هنري ليفي "الحرب من دون أن نحبَّها"، وعندها يتقدّم ليلعب دور البطولة!.
صراعٍ وجوديّ يجد فيه النظام الإيراني نفسه مضطرًّا لإعلان تغيير "العقيدة النووية" إذا ما كان في عمره السياسي بقيّة
إنّها الحرب الناجمة عن تداعيات "طوفان الأقصى" والتي دفعت إشعاعاتها وزير الدفاع الباكستاني خواجة آصف لاطلاق موقفٍ عميق الدلالات "إسرائيل تستهدف اليمن وإيران وفلسطين، وإذا لم يتّحد العالم الإسلامي الآن فسنواجه جميعًا المصير نفسه". تبرز أهمية الموقف الباكستاني أنّه يأتي بعد المواجهة مع الهند التي أوقفها ترامب مؤقتًا.
الوضع خطير، وربّما ينزلق إلى ما بعد الحرب الإقليمية، ويأخذ بطريقه حقول النفط والغاز والممرّات والمضائق في صراعٍ وجوديّ يجد فيه النظام الإيراني نفسه مضطرًّا لإعلان تغيير "العقيدة النووية" إذا ما كان في عمره السياسي بقيّة!.
(خاص "عروبة 22")