تضاءل دور مصر الثقافي مع نهاية الحقبة الناصرية وأدّت المقاطعة العربية لمصر بعد اتفاقية كامب ديفيد، إلى ما يشبه الغياب لتأثير مصر السياسي والثقافي على السواء.
برز دور بيروت مع بداية الخمسينات في حقبة صعود التيارات الأيديولوجية من قومية واشتراكية. مثّلت مجلة الآداب ومجلة دراسات عربية الاتجاه القومي العربي، بينما مثّلت مجلات شعر وحوار ومواقف تيارًا يرفع شعار الحداثة والأخذ عن الغرب.
وبغض النظر عن هذا التجاذب المضمر أو المعلن، فإنّ بيروت مثّلت الانفتاح على الثقافة العالمية المعاصرة في الرواية والشعر، ومع ذلك ينبغي أن نقرّ بأنّ الإنتاج الفكري على ضآلته كان منغمسًا في الصراعات الأيديولوجية، وقد افتقر إلى التفكير الحرّ والابتكار.
دول الخليج أنشأت مراكز بحث ودور نشر... والكويت لعبت في الستينيات دورًا في إصدار الدوريات
لكن دور بيروت لا يمكن حصره في هذه الثنائية فقط، إذ إنها عُرفت بالمفكّرين المغاربة الذين وجدوا أنّ انتشار أعمالهم ووصولها إلى القرّاء لا بدّ أن يمرّ في بيروت ومن خلالها. والواقع أنّ المفكّرين والباحثين المغاربة قد حضروا في الوقت الذي كان يشهد تراجع الأيديولوجيات وفي مقدّمها القومية العربية قبل أن تتصدّع الاشتراكيات وتياراتها المختلفة.
وبالرغم من أنّ بيروت لا تزال العاصمة التي تنشر الآثار الأدبية والفكرية، إلا أنّ مركزًا جديدًا أخذ يُسهم في النشر متمثّلاً بدول الخليج التي أنشأت مراكز بحث ودور نشر تعتني بالترجمة والإنتاج الأدبي. ولا بدّ أن نذكر الدور الذي لعبته دولة الكويت منذ مطلع الستينات في إصدار عدد من الدوريات وعلى رأسها مجلة العربي ومجلة عالم الفكر وترجمة المسرح العالمي ثم عالم المعرفة الكتاب الشهري. وقد أتاحت هذه المنشورات لقرّاء العربية في كافة البلدان العربية أن يحصّلوا معارف علمية وثقافية تخاطب شرائح منوعة من القرّاء.
وعلى هذا النحو فإنّ لهذه الجغرافيا تاريخًا، فإذا كانت مصر قد قدّمت منذ ما قبل بداية القرن العشرين انتاجًا ثقافيًا منوعًا بين الأدب والفكر يعبّر عن اتجاهات ليبرالية وإصلاحية، فإنّ بيروت في النصف الثاني من القرن العشرين قد أتاحت لدعاة الحداثة أن يعبّروا عن نوازعهم. كما أنّ المغرب يقدّم منذ سبعينات القرن الماضي المحاولات النقدية في الإنسانيات والاجتماعيات مع غلبة الطابع الأكاديمي.
جغرافية الثقافة العربية تتسع أيضًا للإنتاج الأدبي والبحثي والفكري في الغرب الأوروبي والأمريكي
كان زمن الثقافة المصرية هو زمن الروّاد في الأدب والشعر والرواية والفكر. أما الزمن اللبناني فقد كان زمن الحداثة والانفتاح على التيارات الحداثية وبشكل خاص زمن الشعر الذي عبّر عنه شعراء كبار من العراق وسوريا ولبنان وفلسطين، لكنّ زمن الشعر توارى ليحلّ مكانه زمن الرواية التي كانت تعبّر عن انطواء زمن المركزية الثقافية العربية وصعود الوطنيات، فالرواية العربية اليوم هي عراقية وسورية ولبنانية وتونسية وكويتية وسودانية ومصرية. لم تعد أسماء قليلة تحتكر الرواية، وكأن كاتب الرواية يريد أن يعبّر عن الذاتية والخصوصية.
يبقى أن نشير إلى أنّ جغرافية الثقافة العربية تتسع أيضًا للإنتاج الأدبي والبحثي والفكري في الغرب الأوروبي والأمريكي. ففي مجال الرواية برز جورج شحادة اللبناني وألبير نصيري المصري ومحمد ديب الجزائري وسلسلة من الأسماء التي ترجمت أعمالهم إلى العربية وبعضها لم يُترجم. وفي مجال الفكر برزت أسماء أنور عبد الملك وسمير أمين وعبدالله العروي وهشام جعيط الذين عادوا إلى الكتابة بالعربية، إضافة إلى إدوار سعيد ووائل حلاق. إلا أنّ بعض الأسماء اللامعة لم تُعرف إلا على نطاق ضيق مثل الأميركي المصري إيهاب حسن الذي كان من روّاد ما بعد الحداثة وقد تُرجم بعض أعماله مؤخرًا إلى العربية.
باحثون كُثر يعملون في الجامعات الغربية، قدّموا أبحاثًا ذات مستوى أكاديمي رفيع تتعلّق بالمجتمعات العربية عُرف بعضها، وبعضها كثير لم يزل غير معروف للقارئ العربي.
لقراءة الجزء الأول: جغرافيا الثقافة العربية الحديثة (5/1)
لقراءة الجزء الثاني: جغرافيا الثقافة العربية الحديثة (5/2)
لقراءة الجزء الثالث: جغرافيا الثقافة العربية الحديثة (5/3)
لقراءة الجزء الرابع: جغرافيا الثقافة العربية الحديثة (5/4)
(خاص "عروبة 22")