آفاق العالم غداة سقوط مدينة الفاشر؛ آخر معاقل الجيش السوداني في إقليم دارفور، على مشهد يندى له الجبين، فالمدينة غارقة في بحر من الدماء ورائحة الموت تزكم الأنوف، فالمجازر التي ارتكبتها قوات الدعم السريع من قتل وترويع وتهجير وحرق واغتصاب، لا تُختزل في كونها واقعة عسكرية أو حدثاً استراتيجياً - جغرافياً؛ بل هي لحظة تُعيد طرح السؤال المصيري عن مستقبل السودان باعتباره وطناً مشتركاً لكل السودانيين، في هذه اللحظة تجلت كل تناقضات السودان العرقية والدينية والإقليمية والاقتصادية والسياسية تحت عنوان واحد: "الكراهيةُ والموت"، ولذا قد تغدو الفاشر رمزاً لما يمكن أن يصير إليه البلد إذا لم تستعد الدولة مكانتها، ويستعيد المجتمع وعيه.
السؤال الملح: لماذا وصلنا إلى هنا؟ لا توجد إجابة واحدة كافية، وإن كان بعضهم يعلق ما يجري على الأطماع الخارجية والتنافس على ثروات السودان، أو خطة لإعادة توطين العرب الرحل إلى أفريقيا في السودان، فيما عُرف بتشريقة بني هلالة، هذه عوامل موجودة لكنها ليست جوهر الأزمة، الجذر الأعمق يكمن في فشل إدارة جغرافيا واسعة ومتنوعة، فالسودان بلد مترامي الأطراف يضم وادي النيل ودارفور والنيل الأزرق وكردفان والجنوب قبل الانفصال، يتداخل في هذه الأقاليم تنوع عرقي وديني ولغوي وقبلي، غير أن الدولة لم تحسن تحويله إلى طاقة عدالة وتكافؤ في الحكم والتنمية، بل استُخدم غالباً أداةً للهيمنة والتهميش.
كما فشلت النخب، مدنية كانت أو عسكرية، في تبني خطاب وطني ديمقراطي جامع، بل حولت الدولة إلى مغنم وساحة لتصفية الحسابات فيما بينها، فيما أُدخل الجيش إلى الحياة السياسية على أيدي سياسيين مدنيين استخدموه وسيلةً لحسم الصراع، منذ انقلاب الفريق عبود، ثم عهد جعفر النميري الذي بدأ يسارياً قبل أن ينقلب ويذهب إلى "أسلمة" السلطة، وبسبب ذلك ترسخ حضور المؤسسة العسكرية لاعباً مقرراً، وبعد تجربة سوار الذهب القصيرة وعودة المدنيين، اتضح أن زمام المبادرة ظل في يد الجيش الذي أتقن قواعد اللعبة وأدواتها.
جاء انقلاب عمر البشير العام 1989 بدعم حسن الترابي تتويجاً لتحالف الإسلاميين مع جزء من المؤسسة العسكرية، أدرك البشير لاحقاً أن تعاظم نفوذ الإسلاميين داخل الجيش يهدد سلطته، فاستعان بميليشيا الجنجويد بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، ثم حوّلها إلى كيان رسمي هو قوات الدعم السريع، وللمرة الأولى وُلدت قوة عسكرية موازية للدولة تمتلك موارد مستقلة، وفي مقدمتها الذهب، وشبكات إقليمية فعّالة، ومنذ تلك اللحظة بدأ الانقسام البنيوي بين جيش رسمي ومؤسسة مسلحة موازية تملك المال والعدة والرجال.
من رحم هذا الخلل انفجرت ثورة ديسمبر 2018 ضد الفقر والتهميش والفساد، فسقط نظام البشير، غير أن ما تلا السقوط لم يكن انتقالاً ديمقراطياً راسخاً، بل تنافساً على السلطة بين ثلاثة أطراف: قوى مدنية طامحة لكنها منقسمة وضعيفة، وجيش يرى نفسه حارس الأمة، وقوات دعم سريع تسعى إلى تثبيت نفوذها، ومع هشاشة المكوّن المدني، أطاح المكوّنان العسكريان بالحكومة في أكتوبر 2021، ثم ما لبث الخلاف بين الجيش والدعم السريع أن تحوّل إلى حرب مفتوحة في أبريل 2023، وصلت إلى ذرواتها المأساوية بسقوط الفاشر.
تكثّف الفاشر صورة الانقسام العمودي بين المركز والهوامش، فالموارد والثروة ظلتا متركزتين في المركز، فيما عاشت الأطراف تراكُم التهميش والحرمان، استُخدم التنوع أداةً سياسية بدل أن يكون رافداً لنهضة وطنية، وهكذا لم تكن دارفور سوى مرآة لخلل تاريخي عميق في بنية الدولة، خلل يجعل أي شرارة محلية قابلةً للتحول إلى حريق شامل. لم يصل السودان إلى هذه النقطة بسبب الحرب وحدها، ولا بسبب "المؤامرة" وحدها؛ بل لأن البنية السياسية - الاجتماعية صمتت على عقود من الظلم والتفاوت والتغول، حتى اختُزلت الدولة في نخبة لا ترى أبعد من مصالحها، إن سقوط الفاشر ليس مجرد هزيمة عسكرية، بل محطة إجبارية لإعادة الحسابات، لم يعد التردد ممكناً: إما إعادة تأسيس الدولة على قاعدة المشاركة والعدالة والمساءلة، أو مزيد من الانزلاق نحو تشظّي الكيان وانطفاء فكرة الوطن السوداني.
وفيما يقف العالم على الهامش، يتجاهل أن ما يجري في السودان ليس صراعاً على السلطة فحسب، بل تصادم بين نموذجين للدولة: نموذج مركزي صلب يستند إلى مؤسسات الجيش والإدارة، ونموذج محلي يقوم على الزعامات والموارد المستقلة وشبكات النفوذ العابرة للحدود، يعمل بموازاة الدولة وضدها، وفي ظل هذا التصادم، يستحيل الحديث عن استقرار من دون عقد اجتماعي جديد، وعدالة انتقالية لا تستثني أحداً، وإصلاح أمني يدمج السلاح في دولة واحدة. إن لم يتحول هذا الإدراك إلى فعل ضاغط من الداخل، وإسناد مسؤول من الخارج، فلن تتوقف المأساة عند دارفور؛ بل ستمتد ظلالها الثقيلة إلى ما بعد السودان بكثير.
(الغد الأردنية)

