من يتأمّل ما يحدث حاليًا في مصر وهي تعيش وقائع تبدو لمن يتأمّلها، لوحة تكاد تنطق بالقبح والبؤس والبذاءة، ورغم أنّ أغلب هذه الوقائع عرفناها وكابدناها من قبل على مدى سنين طويلة، لكنها تبدو في هذه الأيام متفوّقة جدًا في مستوى البشاعة ومسرفة في القبح لدرجة غير مسبوقة وعلى كل الأصعدة، في الاقتصاد والاجتماع كما في السياسة والإعلام وخلافه.
تتجلّـى هذه اللوحة القميئة في مشهد ما يجري الآن تحت عنوان "الانتخابات الرئاسية"، فقد تخطى الأمر السلوك القمعي والاستبدادي، بما فيه التزوير الفاجر المعهود والمعتاد عليه من زمن طال أكثر مما ينبغي، وقد فاض الانحطاط وتفاقم القبح هذه المرة إلى درجة لم يسبق أن رأيناها بكل هذه الفجاجة المروعة.
لجأت أجهزة السلطة إلى استغلال بؤس المواطنين الفقراء في صنع مشهد لا وصف يليق ببشاعته
قبل نحو أسبوع أعلنت اللجنة المصرية العليا للانتخابات الجدول الزمني لمراحلها المختلفة التي استهلّت أولاها بمرحلة حصول الراغب في الترشّح لهذا المنصب الرفيع على ما يزكيه لدخول قائمة المرشحين المعروضة على الناخب، حيث لا بد له من سلوك واحد من طريقين، الأول؛ أن يحصل على تزكية من 20 نائبًا في البرلمان، والثاني السعي للحصول على تأييد رسمي موثّق من 25 ألف مواطن.
بطبيعة الحال فإنّ الطريق الأول مغلق تمامًا أمام أي منافس حقيقي ومعارض أصيل للرئيس الحالي، لأنّ البرلمان في مصر - كما في أغلب أقطار الأمّة - مرّت الأغلبية الساحقة من أعضائه إلى مقاعد النيابة عبر انتخابات مزوّرة، لهذا لم يتبقّ أمام أيّ مرشح معارض جاد، إلا اللجوء للطريق الثاني ومن ثم السعي للحصول على تزكية العدد القانوني من المواطنين، كشرط لازم لدخول جنّة قائمة المرشحين الرسمين.
سحق المعدمين سحقًا مزدوجًا، مرّة بصنع بؤسهم ومرّة عندما يستعملونهم لإدامة فقرهم
هنا .. وعلى الفور ظهرت الأسبوع الماضي، أسوأ ممارسات التزوير من المنبع وأكثرها تعبيرًا عن الحال وقاع مستنقع العفن الذي يتردى فيه المجتمع المصري حاليًا، فقد لجأت أجهزة السلطة إلى استغلال بؤس جحافل المواطنين الفقراء في صنع مشهد لا وصف يليق بقبحه وبشاعته، إذ راحت تجمع ما تيسّر لها من هؤلاء البؤساء وتحشد الكثير منهم أمام مكاتب التوثيق (لقاء مبلغ مالي زهيد) لكي يرقصوا ويطبّلوا وهم يحملون صور الرئيس، فضلًا عن مضايقة، بل والاعتداء بالضرب على، كل من يتجاسر ويحاول الدخول إلى أي من هذه المكاتب لتحرير تزكية رسمية للمرشّح المعارض ولو كان على رأس شعاراته الانتخابية إنقاذهم من سياسات خرقاء أوقعتهم جميعًا في قاع بحر من البؤس والعدم.
طبعًا غنيّ عن البيان حقيقة أنّ أحدًا من المسؤولين عن تنظيم وتنفيذ هذه الفضيحة السياسية والأخلاقية لم يقرأ رواية "الأم" ولا سمع - مجرّد سمع - بها أو باسم مبدعها مكسيم جوركي، ومع ذلك جسّدوا غريزيًا وعلى نحو بليغ معنى العبارة التي نطق بها "بافل" في الرواية تعليقًا على مفارقة استغلال وسحق المعدمين سحقًا مزدوجًا، مرّة بصنع بؤسهم، ومرّة أخرى عندما يستعملونهم لإدامة فقرهم وعدمهم.
حقًا أنهم يخنقوننا بأيدينا.
(خاص "عروبة 22")